بسم
الله الرحمن الرحيم
بحـث
فـي
زيــارة
المـــزارات
وفقـــه
الزيـــارات
كتبه
(بالفارسية) الأستاذ الفاضل
حيدر
علي قلمداران (القُمِّيّ) (رحمه الله)
ترجمه
إلى العربية ورتَّبه وهذَّبه وعلَّق حواشيه
سعد
محمود رستم
1428
هـ -
_
نقد وتمحيص أحاديث
فضائل
الزيارات في ضوء علم
الرجال
_
نقد وتمحيص دعاء «الزيارة الجامعة الكبيرة» سنداً ومتناً
_
منشأ تعظيم القبور
والغلوّ في الأموات وآثارها السيئة
_
الأحاديث الواردة في
النهي عن تعمير القبور والنهي عن الغلوّ
بسم
الله
الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله الأطهار وصحبه
الأخيار الأبرار ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، وبعد،
فلقد
أدى انتشار كتاب «اُمرايِ هستي»
(أي أمراء الكون)
تأليف أحد الغلاة ويدعى آية الله العظمى السيد أبو الفضل النبوي، في قم/ايران، في
الستينات من القرن الماضي (الميلادي)، الذي طرح فيه مؤلفه نظرية الولاية التكوينية
المطلقة للنبي (صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)
والأئمة الاثني عشر عليهم السلام، أو المعصومين الأربعة عشر (لدى الشيعة الإمامية)،
فاعتبر أن الله جعلهم أمراءَ العالَم ومدبري شؤونه ومقسمي أرزاق العباد
والقَيِّمِين على شؤونهم... الخ، فنحا فيه منحىً غاية في الغلوّ والإفراط؛ إلى
نهوض المرحوم الأستاذ «حيدر
علي قلمداران القُمِّيّ»
المجاهد بالقلم واللسان، والمدافع عن حريم التوحيد الناصع، إلى
الرد عليه وتزييف دعاويه وبيان مخالفتها للقرآن والسنة وتعاليم الأئمة، فألف كتاباً
كبيراً من خمسة مباحث (بالفارسية طبعاً) أسماه «راه نجات از شرِّ غلاة» (أي طريق النجاة من شر الغُلاة) ضمَّنه المباحث
التالية:
1.
«بحث
در اختصاص علم غيب به خدا»
بحث في اختصاص علم الغيب بالله.
2.
«بحث
در ولايت وحقيقت آن»
أي بحث في الولاية وحقيقتها.
3.
«بحث
در شفاعت وحقيقت آن»
أي البحث في الشفاعة وحقيقتها.
4.
«بحث
در باره غلاة»
أي البحث حول الغلاة.
5.
«بحث
در باره زيارت»
أي البحث حول زيارة المراقد.
ولكن، وكما
كان مُتَوَقَّعاً، لم يتمكن من طبع كتابه ونشره، نظراً لما أوجده حراس الخرافات
والغلو من عراقيل أمامه حالت دون تمكنه من طباعة الكتاب، فقسَّم تأليفه إلى عدة
أقسام، ونضد كل قسم سراً في مطبعة مستقلة من مطابع المدن والبلدات المجاورة لمدينته
قم، وأخرج نسخاً منها بصورة مضطربة، دون أن تتاح له إمكانية مراجعتها وتنقيحها
فكثرت فيها الأخطاء المطبعية، وكان عدد النسخ محدوداً تم توزيعه بين الأصدقاء
والمعارف وعدد قليل من الناس.
وكذلك
استفاد المؤلف من فرصة الانفتاح في السنة الأولى من الثورة الإسلامية الإيرانية عام
1979م. فقام على عجل بطبع الفصلين الثالث والرابع (حول الشفاعة وحول الغلو والغلاة)
في كتاب واحد وكانت الطبعة أيضاً مشوَّشة ومليئة بالأخطاء
المطبعية.
ثم قام
أصدقاء المؤلف
الذين يشاطرونه أفكاره، بعد وفاته، بتنضيد جديد للمبحث الخامس من كتابه المذكور أي
بحث زيارة المراقد ونشروه باسم «زيارت
وزيارتنامه» (أي زيارة المراقد وأدعية الزيارات)
وضمُّوا إليه فصلاً أخذوه من كتاب آخر له لتناسبه مع هذا الكتاب، وأتحفوني بنسخة
منه، فقمتُ بترجمته وأسميته (بحث في زيارة المزارات وأدعية الزيارات)
وهو الكتاب الحالي، ومما
يجدر ذكره أن المرحوم قلمداران في هذا الكتاب وسائر مباحث الكتاب الأصلي (أي:
راه نجات از شر غلاة) كان يكتب بأسلوب غاضب ومندفع ولم تخلُ بعض عباراته من
شدة وحماس زائد، والكتابة مع العاطفة الملتهبة لها جانب إيجابي وآخر سلبي، أما
الإيجابي فهو أن المؤلف ترك المجاملات وكان صريحاً قاطعاً بلا مواربة لم تأخذه في
قول كلمة الحق لومة لائم، أما الجانب السلبي فهو أن الكتابة بهذا الدافع تكون عادة
مشوشة وغير مرتَّبة حتى أنه لم يضع فصولاً لكتابه بل اكتفى بعناوين وسرد مباحثه
تحتها سرداً لم يخلُ أحياناً من التكرار، هذا إضافةً إلى استخدامه أحياناً ألفاظاً
غاضبة - كما يلاحظ القارئ - مما لا ينبغي أن تكون في كتاب علمي، فالكتاب
العلمي يجب أن يُكْتَبَ بشكلٍ هادئ وعلى نحو مرتب ومنسق، وهذا ما قمت به في الترجمة
فلم يقتصر عملي على مجرد الترجمة إلى العربية، بل حقَّقْتُ الكتاب ووثَّقْتُه
وهذَّبْتُه وحذفتُ تكراراته وخرَّجْتُ بعض رواياته التي لم يذكر مصدرها، وأحياناً
وسَّعتُ اقتباساته التي اختصرها فأوردتها في الترجمة كاملةً لما رأيت فيها من
الفائدة، وترجمتُ للشخصيات الهامة المذكورة فيه، ورتَّبته على نحو منطقي بعناوين
وضعتُ بعضها من عندي، ولم ألتزم فيه بالترجمة الحرفية بل تلقّفت المعنى الذي يريد
إيصاله فعبَّرت عنه بألفاظٍ تناسب العربية حتى لا تكون الترجمة حرفية ركيكة وعسيرة
على الفهم، والخلاصة سعيت في خدمة الكتاب وإظهاره بهذه الحلة القشيبة، أسأل
الله تعالى أن يتقبل هذا العمل خالصاً لوجهه والحمد لله أولا
وآخراً.
المترجم (سعد محمود
رستم): 13/شوال/1428 هـ
في كتابنا
«طريق النجاة من شر الغلاة» أوردنا خمسة أبحاث أحدها حول موضوع الزيارة، وذلك
لأن غلاة هذا العصر يستندون في مزاعمهم وأقاويلهم حول الولاية التكوينيَّة وتصرّفات
المعصومين الأربعة عشر(1) في ملكوت
السماء والأرض إلى بعض الفقرات الواردة في الزيارات، مثل فقرة: «السلام عليك يا عين الله الناظرة! ويده
الباسطة!»
وأمثالها...
لذا وجدنا
لزاماً علينا أن نبحث في أصل مسألة «الزيارة»
ومشروعيتها بحثاً علمياً محقَّقاً: فنقول وبالله التوفيق، إنه مما لا شك فيه أن
التردد والسفر لزيارات الأضرحة والمشاهد - بالصورة والمراسم التي تتم فيها اليوم -
لا أساس لها في دين الإسلام المقدس، وهي قطعاً ليست من أحكام «ما أُنْزِلَ به الكتابُ وأُرْسِلَ به
الرسولُ»، ولم يأتِ أيُّ نبيٍّ في شريعته
بأحكامٍ حول زيارات المزارات والمشاهد، كما أنه لم يشرع في أي دين من الأديان
الإلهية الحقَّة عبادةٌ باسم زيارات العتبات. والشاهد على هذا، الكتبُ السماويةُ
الموجودةُ وعدمُ وجود مزارات للأنبياء الإلهيين الذين لا يُعَدُّونَ
ولا يُحْصَوْنَ ولا لذراريهم. كما أنه لم تأت في كتاب الله المجيد وقرآنه
الحميد أيُّ آيةٍ أو إشارة إلى تلك الأعمال، وكل ما يوجد في هذا الصدد إشارة قد
يستفاد منها، صراحةً أو كنايةً، ذمُّ التردُّد لزيارات القبور وهي قوله تعالى:
((ألهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ
الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ)) التكاثر(2). فإذا كانت زيارة
مراقد الأولياء تتم أحياناً ابتغاء رضوان الله وبما يرضي الله، فإن أكثر ما تتم
لأجله زيارات المراقد والأضرحة اليوم أمورٌ شركيَّةٌ نهى عنها الشارع وأعمالٌ
ذمَّها الله سبحانه وتعالى توجبُ الحسرةَ والندامةَ يوم الحشر، ومن هنا نفهم لماذا
كان التردّد إلى زيارات القبور مذموماً ومكروهاً شرعاً في بداية بعثة خاتم النبيين
- صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ -.
و مما يدل
بوضوح على ما قلناه: الجملةُ المتواترةُ: «قَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ
الْقُبُورِ»، فإذا استندَ مدَّعٍٍ إلى ما
جاء في تتمة الحديث من قوله صلوات الله عليه وآله، بعد نهيه: «فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ
الْآخِرَةَ»(3)، قلنا:
من البديهي
أن زيارة القبور التي تُذَكِّرُ الإنسانَ بالآخرةِ والموتِ مشروعة وممدوحة ولكنها
لا علاقةَ لها من قريبٍ ولا من بعيدٍ بتلك الزيارات وشد الرحال إلى الأضرحة الفخمة
المزخرفة المزينة بجميع أنواع زينات الدنيا من القبور المرتفعة الملبسة بأقشمة
الحرير المذهَّبة، المسيَّجة بالفضَّة المعطَّرة، إلى القباب ورؤوس المآذن المطلية
بالذهب، إلى الكريستال الفاخر والسجاد الثمين والشمعدانات الجميلة والثريات
المتدلية الفخمة، بل مثل هذه الزيارات تذكّر الإنسان بالدنيا، إذْ فيها دافعٌ قويٌّ
للانجذاب نحو حطام الدنيا وزينتها، وشدٌّ للنفس نحو متاعها، إضافة إلى ذلك فإن أمر
الشارع في هذه المسألة - أي قوله فزوروها فإنها تذكركم الآخرة - ليس منحصراً بزيارة
قبور المؤمنين بل يتساوى فيه زيارة قبور المؤمنين والكفار لأن كلا الزيارتين
تذكِّران الإنسان بالموت والآخرة وتدعوه إلى العبرة من أحوال الغابرين، بشرط أن
يكون القبر قبراً عادياً وليس بناءً شامخاً عظيماً ومزخرفاً.
ومن جملة
ما يدل على نَهْيِ النبيِّ (صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ) عن زيارات القبور في
صدر الإسلام، الحديثُ المشهورُ عن ابن عباس أنَّ رسول الله صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ: «لَعَنَ
زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالمتَّخِذِيْنَ
عَلَيْهَا المَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ»(4).
وإذا تمسك
المخالفون بالمفهوم المخالف للآية الكريمة ((وَلاَ
تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ
قَبْرِهِ...)) (سورة التوبة/84). مستدلين بأن الله تعالى نهى فيها
نبيَّه (صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) أن يقوم على قبر
المنافق مما يدُلُّ بمفهوم المخالفة على جواز قيامه على قبر المؤمن!
قلنا: إذا
كان هذا المعترض منصفاً وطالباً للحق وليس كالغريق الذي يتشبث بالقشَّة، فإنه
يستطيع بتأمل بسيط للآية أن يدرك أن المراد من القيام على القبر فيها، العمل الذي
يتم بعد أداء صلاة الجنازة على الميت أي: دفنه ومواراته التراب، ولا علاقة له
بالزيارة، كما جاء في اللغة «قام على الأمر»: أقدم عليه.
وبغض النظر
عن عدم وجود تشجيع أو تشريع للتردد على الأضرحة وزيارات قبور الصالحين في أي دينٍ
أو شريعة إلهية حقة(5)، وعدم
وجود مثل هذا الحكم في الكتاب والسنة؛ فإن تاريخ مسلمي صدر الإسلام والسيرة النبوية
العطرة ليس فيهما أي خبر عن مثل هذا العمل إلى حد أنه بعد أكثر من ثلاثين أو أربعين
سنة من رحلة النبي الأكرم، لمّا ذَهَبَتْ عائشةُ زوجُ النبيِّ إلى زيارة قبر أخيها
«عبد الرحمن ابن أبي بكر» - في عهد خلافة معاوية - لامها بعض التابعين
وذكَّرَها بِنَهْيِ النَّبِيِّ (صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ) عن زيارة
القبور، فأخبرته أنه
سمح
بها بعد ذلك(6)!.
فمثل هذا
العمل لم يكن رائجاً في الصدر الأول، ولذلك كان «الشعبي»
(أبو عمرو عامر بن شراحيل الكوفي المتوفى 104 هـ ق) - الذي يُعتَبر من علماء
الإسلام الكبار، وقد لَقِيَ أكثر من مئة وخمسين صحابياً، وأخذ عنهم الحديث -، يقول
- كما ينقل عنه ابن بطّال -: «لولا أن رسول
الله صلى
الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور
لزرت قبر النبيّ [و في رواية:
لَزُرْتُ قبرَ ابْنَتِي]»(7).
أي أنه حتى
بعد مرور مئة عام على الهجرة لم يكن هناك زيارات جماعيَّة للمراقد بالصورة التي
نشأت فيما بعد. ولا ندري متى شاعت هذه البدعة بين المسلمين ومتى راجت كل هذا الرواج
بين الشيعة؟ وأما ما قيل من أن أول من زار الإمامَ أبا عبد الله الحسين عليه
السلام في كربلاء، كان الصحابي الجليل «جابر
ابن عبد الله الأنصاري»، فلا يمكننا أن نصدق
مثل هذه الروايات ونستند إليها، وذلك لكثرة الرواة الكذبة والغلاة الذين لا حصر لهم
بين رواة تلك الزيارات، وعلى فرض صحة تلك الرواية فليس فيها مطلقاً ما يدل على أنَّ
جابرَ إنما زار ذلك القبر متوسلاً متمسِّحاً وبوصفه يؤدي طقساً معيناً..، لاسيما
أنه لم يكن لمرقد الإمام الهمام عليه السلام في ذلك الزمن بناءٌ ولا قبَّةٌ
ولا ضريحٌ... ولم يقم ذلك الصحابي الجليل بالأعمال التي يقوم بها الزائرون اليوم في
حرم ومرقد ذلك الإمام مثل الطواف وطلب الحوائج والاستشفاع...، بل أكثر ما يمكن قوله
هو أن جابر زار قبر سيد الشهداء عليه السلام ليدعو الله تعالى الحيّ القيوم له
بالرحمة والغفران. وأياً كان الأمر فلا يمكن اعتبار هذه الواقعة دليلاً محكماً
وشاهداً معتبراً على شدّ الرحال لزيارات المراقد.
وفي ما يلي
سنذكر بعض الأخبار والآثار، الواردة في الكتب الموثَّقة والمعتبرة، التي تؤيد هذا
المعنى وتثبت مُدَّعانا في أن الرحيل إلى «زيارات الأضرحة» لم يكن في أي وقتٍ - في نظر شارع الإسلام - عملاً
ممدوحاً ولم يجعله أمراً مهمِاً ولم يعتبِرْهُ من العبادات والحقائق الشرعية بل كان
- بدلالة الروايات الآتية - منهياً عنه من قِبَلِ الرسول المختار (صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وكان ينكره أصحابه
الأجلاء في صدر الإسلام، وعلى أقل تقدير لم يكن عبادةً مأموراً بها:
1 - روى
الحافظ «عبد الرزاق الصنعاني»(ت 211 هـ ق)(8) في كتابه
القيّم «المصنَّف» الذي يُعَدُّ أحد أقدم كتب الحديث في الإسلام، كما
أن مؤلِّفَه كان معاصراً للأئمة - عليهم السلام - من زمن
الإمام الصادق وحتى الإمام الجواد، وكان - طبقاً
لتصريح علماء الرجال - شيعيّ المذهب،
الرواية التالية: «عبد الرزاق عن معمر عن
قتادة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: من زار القبور فليس
منّا»
(9).
2 - وروى
«الحاكم النيسابوري»(10) بإسناده
عن عبد الله بن عمرو بن العاص(11)قال:
«قَبَرْنَا(12)
مع رسول الله صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ
رجلاً، فلمَّا رجعنا وحاذينا بابه إذا هو بامرأة لا نظنه عرفها، فقال: «يا فاطمةُ من أين جِئْتِ؟» قالت: جئتُ من أهل الميِّت رحمتُ إليهم مَيِّتَهم
وعزَّيْتُهُم. قال: «فلعلَّك بلغتَ معهم
الكدي(13)؟» قالت: معاذ الله أن أبلغ معهم الكديَ، وقد سمعتُكَ
تذكر فيه ما تذكر!، قال: «لو بلغتِ معهم الكدي
ما رأيتِ الجنَّةَ حتى يرى جدُّ أبيكِ»
«والكدي: المقابر»(14).
ومعنى الجملة الأخيرة
إنه من المستحيل عليكِ إن فعلتِ ذلك أن تدخلي الجنَّةَ!. فهذا الحديث الشريف
يُبَيِّن إلى أي حدٍ كانت زيارة القبور في ابتداء أمر الإسلام مكروهةً في نظر
الشارع.
3 - وهناك
عدة روايات وأحاديث مأثورة أخرى عن رسول الله في نهيه صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ
وَسَلَّمَ عن زيارة القبور في ابتداء بعثته... مثل الحديث القائل: «إني نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها»، فأمر بزيارتها لأجل الاعتبار وتذكر الموت، وقد روت
كتب العامة والخاصة، وروى الزيدية أيضاً في مسند الإمام زيد بن علي عليه
السلام، كلهم عن أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: «نهانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ
وَسَلَّمَ عن زيارة القبور» (15).
4 - كما
جاء من طرق العامة والخاصة أنه (صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ) قال: «لَعَنَ اللهُ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ
وَالمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا المَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ»(16).
5 - كما
روى جميع المسلمين أن رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ) قال مراراً: «لا تتخذوا قبري عيداً»(17) وسنشرح
هذا الحديث بتفصيل أكثر لاحقاً إن شاء الله.
6 - ومن
الأحاديث الشديدة التي يرتجف لها الإنسان والتي جاء فيها النهيُ الشديدُ والكراهةُ
العظيمةُ لهذا العمل، ما رواه عطاء بن يسارعن النبي الأكرم أنه تضرّع إلى رب العزّة
والجلال قائلاً: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ
قَبْرِي وَثَناً» ثم قال: «لَعَنَ اللهُ قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُورَ
أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»(18).
7 - ويدل
عليه مضمون الحديث الذي رُوِيَ عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: قال رسول
الله
صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم
يَقُمْ مِنْهُ: «لَعَنَ اللهُ اليهودَ
والنَّصَارَى اتَّخذُوا قُبُورَ أنبيائِهِم مَسَاجِدَ. (قالت عائشة):
ولولا ذلك لأبرز قبره إلا أنه خشي أن يُتَّخَذَ مَسْجِداً»(19).
8 - مما
يدل على ذلك أيضاً عدم اهتمام رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ
وأصحابُه الأخيار بقبور الأنبياء والأولياء التي كانت موجودة في ذلك الزمن - سواءً
كانت قبوراً واقعية أم موهومة - مثل قبر سيدنا إسماعيل وهاجر في مكة، وقبر سيدنا
إبراهيم الخليل وسيدنا يوسف عليهما السلام في أرض فلسطين من بلاد الشام، وقبر سيدنا
هود عليه السلام في اليمن، فلم يُرْوَ عنه أنه صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ
وَسَلَّمَ زار أياً من تلك القبور.
كما إن
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ فقد أعزةً عليه في الدنيا, وكان
من الممكن أن يجعل قبرهم مزاراً فلم يفعل، كقبر أم المؤمنين خديجة عليها السلام
وقبور شهداء بدر وأحد، وقبور الصحابة الكبار أمثال عثمان بن مظعون وغيرهم، والتي لم
يُرْوَ أن أياً منها كان قبراً مبجلاً ومزاراً يتردد الناس إليه؟ وحتى قبور أبناء
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ نفسه لم تتحول أبداً إلى مزارات
يُطاف حولها، كما كان حال قبر إبراهيم ابن رسول الله في المدينة الذي لم يتحول إلى
مزار، طبقاً لما رواه الشيخ الصدوق - عليه الرحمة - في كتابه «من لا يحضره الفقيه»، والكليني في «الكافي»
حيث قالا: «وَ فِي رِوَايَةِ عَامِرِ بْنِ
عَبْدِ اللهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه
السلام يَقُولُ: كَانَ عَلَى
قَبْرِ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَذْقٌ يُظِلُّهُ
مِنَ الشَّمْسِ حَيْثُمَا دَارَتْ فَلَمَّا يَبِسَ الْعَذْقُ ذَهَبَ أَثَرُ
الْقَبْرِ فَلَمْ يُعْلَمْ مَكَانُهُ!»(20).
فلو كان
هناك استحباب لزيارة القبرٍ والطواف حوله لكان أولى الناس بذلك قبر ابن رسول الله
صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ، لا أن نرى ذلك مندرساً لا يُعْرَف له
أيُّ أثرٍ في زمن رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ) ذاته؟ وكذلك لم يكن
قبر عمّ النبي حمزة سيد الشهداء عليه السلام مزاراً يُزَارُ(21).
وقد روت
جميع التواريخ وكتب السير والطبقات بما في ذلك سيرة ابن هشام و«مغازي الواقدي» و«تفسير عليٍّ
بن إبراهيم القميّ»، والمجلد السادس من
«بحار الأنوار» للمجلسيّ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ
وَسَلَّمَ لمّا رأى جسد حمزة عليه
السلام في سفح جبل أُحد
عرياناً ومُـمَثَّلاً به قال: «لَوْلَا أَنْ
يُحْزِنَ ذَلِكَ نِسَاءَنَا، لَتَرَكْنَاهُ لِلْعَافِيَةِ - يَعْنِي السّبَاعَ
وَالطّيْرَ - حَتّى يُحْشَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ بُطُونِ السّبَاعِ
وَحَوَاصِلِ الطّيْرِ.»(22).
بديهيٌّ
أنه لو كان عمل الزيارة مطلوباً ومستحبّاً إلى تلك الدرجة التي يدّعيها القائلون
بذلك، لما كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ يرضى أبداً بترك
جثمان عمه سيد الشهداء دون أن يجعل له قبراً يُزار.
9 - وردت
أخبارٌ عديدة تنهى عن البناء على القبور أو تعميرها وتجصيصها، ومن الواضح تماماً
أنه لم يَرِد في تلك الأخبار أي تمييزٍ بين قبور الأنبياء والأولياء وقبور عامة
الناس، كما جاء في مستدرك الوسائل (23) عن عليّ بن
أبي طالب عليه السلام قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ
يقول: «أول عدل الآخرة، القبور لا يُعرف
شريفٌ من وضيع». وقد جاءت مئات الأحاديث في
هذا الباب في كتب المسلمين ولا يخفى أن النهي عن تعمير القبور إنما هو لأجل ألا
تتحول إلى مزارات.
10 - ويؤكد
حقيقة هذا المعنى - أي أن تعظيم القبور أمر مكروه نهى عنه الإسلام بشدة - تلك
الأوامر التي أمر بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ علياً عليه
السلام وأمر بها عليٌ أبا الهياج الأسدي فقال - كما روى ذلك الكُلَيْنِيُّ في
«الكافي»
والبَرقيُّ في
«المحاسن» «عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام
عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ - إلى المدينة فقال: لا
تَدَعْ صُوْرَةً إلّا مَحَوْتَهَا ولا قَبْرَاً إلا سَوَّيْتَه...» وفي روايةٍ أخرى لهما أيضاً عن أبي عبد الله عليه
السلام عن آبائه عليهم السلام أن علياً عليه السلام قال: «أرسلني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ - في هَدْمِ القبور
وَكَسْرِ الصُّوَر»(24).
وكذلك كل
ما ورد في باب النهي عن تعمير وتجديد القبور، يدلُّ بوضوح تام على تلك الحقيقة،
وذلك مثل ما جاء في كتاب «من لا يحضره
الفقيه» للصدوق، وكتاب «المحاسن»
للبرقيّ والمجلد 18 من بحار الأنوار للمجلسيّ أن أمير المؤمنين عليه السلام قال:
«مَنْ جَدَّدَ قبراً أو مَثَّلَ مثالاً،
فَقَدْ خَرَجَ عَنِ الإسْلامِ»(25).
ومن الواضح
أنه لو كانت زيارات القبور والطواف بها وطلب الحوائج من أصحابها والتشفع بالأموات
أمراً مطلوباً للشارع ومحبوباً في نظره لما أرسل نبيُّ الله وعليٌّ المرتضى - سلام
الله عليهما - أشخاصاً بمهمة محدَّدة هي تخريب وهدم كل قبر مشرفٍ دون استثناء ولما
اعتبر القبور العامرة أمراً مرادفاً لعبادة الأوثان إلى حد قوله كما مرَّ «مَنْ جَدَّدَ قبراً أو مَثَّلَ مثالاً، فَقَدْ
خَرَجَ عَنِ الإسْلامِ»، كما ندرك هذه
الحقيقة جيداً في زماننا هذا ونلمسه لمس الواقع.
إن هناك
أحاديث وقرائن كثيرة أخرى تؤكد ما قلناه ونكتفي بالنماذج العشرة التي أوردناها.
تلك عشرة كاملة.
+
+
+
لقد بدأنا
بالدلائل النقلية على عدم استحباب زيارات الأضرحة لأن المعتقدين بالزيارة يستندون
إلى الأدلة النقلية، وإلا فإن الأدلة العقلية أيضاً تدل على ما نقول إذ لا يوجد
عاقل يعتبر صرف الوقت في شد الرحال والسفر إلى القبور أمراً ممدوحاً، وفي ما يلي
نذكر عدداً من الأدلة العقلية على أن التردد إلى زيارات الأضرحة ليس عبادةً مأموراً
بها من قبل الشارع:
1- لم يأتِ
في جميع آيات القرآن أدنى ذكر لأهمية زيارة القبور، والآية الوحيدة التي جاء فيها
ذكرٌ لزيارة المقابر هي قوله تعالى: ((أَلْهَاكُمُ
التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)) (التكاثر/1 - 2)، وهي
آيةٌ قد يُسْتَنْبَطُ منها كراهةُ أو منعُ زيارة المقابر لا استحبابها، لأن سياقها
يدل على مذمّة هذا الأمر.
2- لا يوجد
في الأديان الإلهية السابقة على الإسلام أي تعاليم تحثُّ على التردُّد إلى القبور
وزيارتها، هذا ونحن نعلم أن دين الإسلام جاء يؤكّد ما شرعه الله للأنبياء السابقين
مثل نوح وإبراهيم الخليل عليهما السلام: ((إِنَّا
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن
بَعْدِهِ...))
(النساء/163)، وكذلك: ((شَرَعَ
لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا
وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى...))
(الشورى/13)، و((مَا
يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو
مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ))
(فُصِّلَتْ/43).
فمفاد هذه
الآيات أنَّ ما شَرَعَهُ اللهُ في دين الإسلام لِنَبِيِّ آخر الزمان هو نفس ما
شَرَعَهُ اللهُ للأنبياء السابقين. وبالتالي فمن البديهي أن الله لم يشرع لنبيه
الخاتم ما لم يكن مشروعاً في الرسالات والأديان الإلهية السابقة. ولو شرع ذلك
للأنبياء السابقين لشرعه في الإسلام.
3- رغم
مجيء/120000/ (مئة وعشرين ألفَ) نبيٍّ إلى العالم - حسب الرواية
المشهورة(26) - بل في
القرآن الكريم ما يفيد أن عدد الأنبياء كثير لا يحصيه إلا الله، كما في قوله تعالى:
((أَلَمْ
يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ
وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جَاءتْهُمْ
رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ...)) (سورة
إبراهيم/9)، ومثله قوله تعالى: ((وَرُسُلاً
قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ
وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)) (سورة
النساء/164)، رغم ذلك لا نشاهد أي ضريح أو مزار لهؤلاء الأنبياء، على كثرتهم. أما
بعض القبور الموجودة والمنسوبة لبعض الأنبياء، فلا أحد يعرف على وجه اليقين حقيقة
أمرها، كما جاء في طبقات ابن سعد (طبع بيروت، ص53) عن إسحق بن عبد الله أبي فروة
قوله: «ما يعلم قبر نبي من الأنبياء إلا
ثلاثة:
(1) قبر
إسماعيل، فإنه تحت الميزاب بين الركن والبيت.
(2) وقبر
هود، فإنه في حَقْفٍ من الرمل تحت جبلٍٍ من جبال اليمن عليه شجرة تندى، وموضعه أشد
الأرض حراً.
(3) وقبر
رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإن هذه قبورهم بحق».
هذا مع أنه
لو كان أمر الزيارة مستحباً إلى هذا الحد في نظر الشارع ومطلوباً في شريعته، لكانت
زيارة نبي الله داوود عليه
السلام مثلاً، أهم بكثير من
زيارة «إمامزاده داوود»(27)، ولَكَانَ
قبرُ حضرة النبي إلياس عليه
السلام أكثرَ أهميةً من قبور
أولاد الأئمة وأحفادهم.
4 - إن كتب
التواريخ والسير تشهد جميعُها أنه لم يحصل لأيِّ واحدٍ من كل ذلك العدد من المؤمنين
الصالحين والمجاهدين الأبرار الذين ارتحلوا أو استشهدوا في عهد النبوَّة أو في صدر
الإسلام أن بُني لهم مزار مجلَّل أو ضريحٌ مُعَظَّم، رغم أن بعضهم كان من الأعلام
والصالحين ومن أقرب الناس إلى نبيِّ الله صَلَّى
الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ مثل عمه حمزة سيد الشهداء رضي
الله عنه أو ابنه إبراهيم عليه
رحمة الله.
5 - تدلُّ
أعمال الدفن في صدر الإسلام بحدِّ ذاتها على أنه لم يكن هناك فرقٌ في هذا الأمر بين
الأموات مهما كان شأنهم رفيعاً أو كانوا من عظماء الإسلام وأئمّته فالكل كان
يُدْفَن بنفس الطريقة ولم يكن هناك لأحد أضرحةٌ ومزاراتٌ.
6 - لقد
قام عليٌّ عليه
السلام بدفن
زوجته فاطمة الزهراء سيدة
نساء العالمين بكيفية جعلت قبرها غير معلوم لأحد حتى هذا اليوم، بل أوصى مولى
المؤمنين عليه السلام أصحابه بعد وفاته بدفن جثمانه بنحوٍ يتم فيه إخفاء قبره عن
أنظار الناس، وفي هذا أكبرُ عبرة لأولي الأبصار وتذكرة لأولي الألباب، بل هو تدبيرٌ
تحار في عظمته عقول المؤمنين وتدهش لبصيرة عليٍّ النافذة ورؤيته الربانية البعيدة
التي جعلته يأمر بذلك وكأنه كان يرى من وراء أستار القرون ما سيفعله عُبّاد القبور
بعد ألف عام؟؟ ولا عجبَ فهو عليٌّ إمام التوحيد، وهو عليٌّ الذي أمره الرسول
الخاتم صَلَّى اللهُ عَلَيه
وَآلِهِ وَسَلَّمَ بهدم كلِّ قبر
مُشْرِف من قبور الناس التي كانت مزاراً في ذلك الزمن بل كانت معبد أصنامِ عُبّاد
الأموات، كما أمره بهدم كل وثن أو تمثال كان الناس لا يزالون يعبدونه وربما
كان في مقابرهم(28).
أجل، لم
يكن في نظر عليٍّ - إبراهيم زمانه المحطم للأصنام - أيُّ فرق بين أن يعتلي كتف
النبي (صَلَّى
الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) في فتح مكة لكي يُخْرِجَ الأصنام من
بيت الله ويطرحها أرضاً فيجعلها حطاماً، وبين أن يذهب إلى القبور ويحطِّم القبور
المشرفة فيسوي بها الأرض، فكلا الأمرين أمرُ رسول الله ورضا رب العالمين. فكيف
لا يرى ذلك الشخص العظيم، ببصيرته النافذة وتفكيره البعيد، أنه من الممكن لهذه
الأمة التي تخلّصت حديثاً من ظلمات الجاهلية، أن تحوِّلَ - عن قريبٍ - قبرَ ابنةِ
النبيِّ الوحيدة، التي حازت مزايا ومناقب خاصة من جانب رسول الله (صَلَّى
الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) كقوله: «فاطمة
بضعة مني»
و«فاطمة سيدة نساء العالمين»، إلى مزارٍ، أو بتعبير
أصح إلى معبد أوثان جديد مثل تلك التي أُمِرَ بهدمها، فقام بدفنها في وسط الليل حتى
لا يطلع أحد مكانها أحد فيتخذه مزاراً؟!
وكيف لا
يوصي نبراس التوحيد ذاك عليه السلام بدفن جثمانه على نحو لا يعلم بمكان قبره أحد،
وهو يرى بعين اليقين والبصيرة ما سيحدث لقبره فيما بعد، كيف لا وقد رأى في حياته
أشخاصاً رفعوه إلى حد الإلهية فاعتبره بعضهم اللهَ ربَّهم وخالقَهم؟! إلى الحد الذي
اضطر لأجل ثنيهم عن تلك العقيدة الفاسدة أن يهدّدهم بالقتل والحرق، بل أن ينفذ ذلك،
حسب ما ذكرته بعض التواريخ، ورغم ذلك لم يرجع أولئك الأفراد عن عقيدتهم واحترقوا
وماتوا عليها. أفلا يجب على مثل ذلك الإمام أن يخفي قبره وقبر ابنة رسول الله
عليهما
السلام عن أنظار الناس حديثي
العهد بالجاهلية؟.
أما ما
يدّعيه بعض العلماء من أن قبر فاطمة عليها السلام إنما تمّ إخفاؤه حتى
لا يصلِّي عليه الشيخان فهو - والله أعلم - ليس سوى ظنّ خاطئ لا يقوم عليه
دليل، وإلقاء للاختلاف والعداوة بين المسلمين، والدليل على ما نقول أن علياً عاش
سنين طويلة بعد رحلة الشيخين، كما أن الأئمة من ذرية فاطمة - عليهم السلام - عاشوا
في زمن لم يبق فيه أيُّ خوف من ذلك الأمر أصلاً، فلماذا بقيَ قبرُ فاطمة مجهولاً
ولم يقم عليٌّ ولا الأئمة الكرام من أولاده بإظهاره؟!
وكذلك ما
قالوه من أن علّة أمر عليٍّ بإخفاء قبره هو خشيته من أن يقوم الخوارج بنبش قبره
وحرق جثمانه، لا يعدو أيضاً ظنَّاً كاذباً تكذّبه الحقيقة والتاريخ لأن الخوارج -
رغم إجرامهم - لم يؤثَر عنهم أنهم قاموا بحرق أي جثمان من أجساد مخالفيهم ولم يأت
مثل هذا الخبر في أي تاريخ.
إن الذين
يشيعون بين المسلمين مثل هذه الأباطيل والأقوال الكاسدة إما جاهلون بحقيقة الدين أو
عاجزون عن معرفة أولياء الله ومدى بُعْد نظرهم أو متعصبون أو مدفوعون لإثارة
الاختلاف والنزاع بين المسلمين أو كل ما سبق!؟
7 - إن
قضية نهيِ رسولِ اللهِ (صَلَّى
الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) عن زيارة القبور كانت معروفةً ومشهورةً
في صدر الإسلام إلى حدِّ أنه لما قامت أم المؤمنين عائشة زوج رسول الله بالذهاب إلى
قبر أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر بعد موته عام 55 أو 56 هجرية، لامها بعض المسلمين
استناداً نهيِ رسولِ اللهِ النساءَ عن زيارات القبور؟!. فاعتذرت قائلةً إن رسول
الله صلى
الله عليه وسلم قد سمح بذلك أخيراً
بعد أن كان قد نهى عنه.
8 - كما أن
موضوع نهي رسول الله عن زيارة القبور كان لا يزال مشهوراً كل الشهرة وحاضراً في
النفوس بكل قوة بحيث أنه - كما ذكرنا - كان الشعبيُّ (أبو عامر شراحيل) المتوفى سنة
104 والذي لقي أكثر من 150 صحابيّاً من أصحاب رسول الله وروى عنهم الحديث، يقول
مراراً: «لولا أنَّ رسولَ الله نهى عن زيارة
القبور لَزُرْتُ قبرَ النبيِّ (أو قبر ابنتي»(29).
9 - إن
أفضل دليل عقلي ونقلي على ما نقول هو أنه حتى أكثر من قرنٍ كاملٍ بعد وفاة النبيِّ
(صَلَّى الله عليه وَآلِهِ) لم يتحوَّل قبره المطهَّر إلى مزارٍ يتردَّد إليه أيٌّ
من الصحابة الكرام أو التابعين الكبار! فمن المسلَّم أنَّ الجثمان المطهَّر للنبي
(صَلَّى الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) إنما دفن في نفس البيت الذي كان يسكنه والذي
كان منزل عائشة، وطبقاً للتواريخ الموثَّقة بقيت عائشةُ قاطنةً في ذلك المنزل ولم
تتركه، كما يروي ذلك ابن سعد في الطبقات الكبرى (ج2/ص 307)، كما يشير عموم المؤرخين
إلى أن عائشة كانت تعيش فوق قبر النبي (صَلَّى الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وتنام
هنالك وحتى إلى ما قبل زمان دفن عمر لم تكن تحتجب في منزلها ولكنها بعد دفن عمر
وضعت الخمار على رأسها - بل ربما الجلباب على بدنها - ولم تنزعه حتى ضربوا جداراً
على القبور(30).
وكذلك جاء
في طبقات ابن سعد (ص307): «أخبرنا مسلم بن
خالد، حدثني إبراهيم بن نوفل بن سعيد بن المغيرة الهاشمي عن أبيه قال: انهدم الجدار
الذي على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، في زمان عمر بن عبد العزيز، فأمر عمر
بعمارته، قال: فإنه لجالسٌ وهو يُبْنَى إذ قال لعلي بن حسين: قُمْ يا علي فَقُمَّ
البيت(31)، يعني بيتَ النبي صلى
الله عليه وسلم، فقام إليه القاسم بن محمد فقال: وأنا أصلحك الله! قال: نعم وأنت
فَقُمَّ، ثم قال له سالم بن عبد الله: وأنا أصلحك الله! قال: اجلسوا جميعاً وقُمَّ
يا مزاحم فَقُمَّهُ، فقام مزاحم فَقَمَّهُ، قال مسلم: وقد أثبت لي بالمدينة أن
البيت الذي فيه قبر النبي، صلى الله عليه وسلم، بيت عائشة وأن بابه وباب حجرته تجاه
الشام وأن البيت كما هو سقفه على حاله وأن في البيت جرَّةً وخَلْقَ
رِحَالِهِ(32).».
ومن
البديهي أنه لو كان القبر الشريف مزاراً يختلف إليه الناس لما تجمع عليه كل ذلك
الغبار والتراب أو الكُناسَة التي احتاجت من عمر بن عبد العزيز أن يأمر الإمام زين
العابدين علي بن الحسين عليه السلام أولاًَ بكنسها، فيرجوه القاسم بن محمد بن أبي
بكر أن يسمح له بالمشاركه في ذلك الفضل، وكذلك يفعل سالم بن عبد الله، فيحول عمر بن
عبد العزيز تلك المهمة منهم إلى «مزاحم».. الخ ما جاء في الرواية.
وأيضاً من
الواضح أن البيت والقبر الذي بقيت فيه جرّةٌ وقماشةٌ مهترئةٌ منذ زمن بعيد، وحتى
قرن كامل، لم يكن أبداً مزاراً عامراً، بالإضافة إلى كون الرواية دليلاً بارزاً على
أن عائشة واصلت سكناها في ذلك البيت حتى آخر عمرها!
10 - عندما
انهدم جدار البيت الذي كان فيه قبر رسول الله (صَلَّى الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ)
بسبب المطر، وقعت حادثةٌ أخرى هي خروج رائحةٍ كريهةٍ من الناحية الشرقية للمنزل،
فجاء عمر بن عبد العزيز مع أحد أحفاد النبي (صَلَّى الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ)
وأمر وردان أن يكشف عن المسألة وأن يباعد الأتربة المتراكمة حول قبر عمر، فقال عبد
الله حفيد عمر بن الخطاب لعمر بن عبد العزيز الذي كان خائفاً من ذلك الأمر: أيها
الأمير! هذه رائحة قدمي جدك عمر بن الخطاب!! وجاء في خبر آخر أن الرائحة المذكورة
كانت رائحة قطة ميتة، ولا شك أن الخبر الثاني هو الأصح لأنه كيف يمكن أن تظهر
رائحةٌ من قدمي عُمَرَ بعد مرور سنوات على دفنه وبعد أن بليت عظامه وصارت تراباً؟!
11 - وروي
ابن سعد في طبقاته فقال: «أخبرنا سريج بن
النعمان عن هشيم، أخبرني رجل من قريش من أهل المدينة يقال له محمد بن عبد الرحمن عن
أبيه قال: سقط حائط قبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في زمن عمر بن عبد العزيز
وهو يومئذ على المدينة في ولاية الوليد، وكنت أول من نهض فنظرت إلى قبر رسول الله،
صلى الله عليه وسلم، فإذا ليس بينه وبين حائط عائشة إلا نحو من شبر، فعرفت أنهم لم
يدخلوه من قبل القبلة».
12 - بعد
دفن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ وَسَلَّمَ والشيخين في ذلك
المنزل كان بعض الناس الذين تصل أيديهم إلى القبر يأخذون من تربته بقصد التبرّك،
فأمرت عائشة بضرب جدار حول القبر وترك نافذة فيه ففعلوا ذلك ولكن الناس ظلُّوا
يأخذون من تربة القبر من تلك النافذة فأمرت عائشة بسدِّها.
ولدينا
عشرات القرائن من هذا القبيل تدل جميعاً على أن القبر الشريف لم يكن حتى ذلك الزمن
مزاراً يزوره المسلمون، ومن أراد الإطلاع أكثر على مثل هذه الشواهد فليرجع إلى كتب
التاريخ لا سيما كتاب «وفاء الوفاء بأخبار
دار المصطفى» تأليف «نور الدين علي ابن أحمد السمهودي»(33) (ص543 فما
بعد).
13 - لدينا
أخبار وآثار عديدة تبين أن زيارة قبر رسول الله (صَلَّى
الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) كانت منهياً عنها من قبل الصحابة
والأنصار وحتى أحفاد النبي الكريم، ومن جملة ذلك:
آ - جاء في
كتاب «المصَنَّف» القيّم تأليف «عبد الرزاق الصنعاني» (ج3/ص577)، وفي كتاب «وفاء الوفاء» للسمهودي (ص 1360):
«عبد الرزاق
عن الثوري عن ابن عجلان عن رجل يقال له سهيل عن الحسن بن الحسن بن عليّ قال: رأى
قوماً عند القبر، فنهاهم وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تتخذوا قبري
عيداً ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً وصلُّوا عليَّ حيث ما كنتم فإن صلاتكم
تبلغني.».
ب - وجاء
في الكتاب ذاته: «روي عن علي بن الحسين رضي
الله عنهما أنه رأى رجلاً يجيء فرجة عند قبر النبي فيدخل فيها فيدعوه، فنهاه، فقال:
ألا أحدثكم حديثاً سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله (صَلَّى
الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) قال: لا تتخذوا قبري عيداً ولا
بيوتكم قبوراً فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم.».
ج - وفي
كتاب السمهودي ذاته أيضاً ضمن بحث «الصلاة على
النبي» روايةٌ «عن القاضي إسماعيل عن سهل بن أبي سهيل قال: جئت
لأسلم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ وحسن بن حسن رضي الله تعالى
عنهما يتعشى وبيته عند بيت النبي، وفي رواية:... رآني الحسن بن الحسن رضي الله
تعالى عنهما عند القبر وهو في بيت فاطمة رضي الله تعالى عنها يتعشى قال: هلمَّ إلى
العشاء فقلت: لا أريد، فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟، وفي رواية: ما لي رأيتك وقفت؟
قلت: وقفتُ أسلِّم على النبي! فقال: إذا دخلت فسلم عليه! وفي رواية: إذا دخلت
المسجد فسلم عليه! قال: إن رسول الله (صَلَّى
الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) قال: لا تتخذوا بيتي عيداً! ولا بيوتكم
مقابر ثم قال: ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء!».
أي
يستوي في السلام على النبيّ أن يكون المسَلِّمُ بعيداً في الأندلس أو قريباً في
الروضة الشريفة (فلا حاجة للمجيء إلى قبر النبي صَلَّى
الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ في المدينة بشكل خاص بهدف إلقاء السلام
عليه!).
د
- وفي كتاب السمهودي، يروي القاضي إسماعيل أيضاً حديثاً آخر يصل سنده إلى الإمام
علي بن حسين أنه قال: «إن رجلاً كان يأتي
كلَّ غداةٍ فيزور قبر النبي صَلَّى
الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ ويصلي عليه ويصنع من ذلك ما انتهره عليه
عليُّ بن الحسين، فقال له علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما: ما يحملك على هذا؟
قال: أحب التسليم على النبي صَلَّى
اللهُ عَلَيْه
وَآلِهِ وَسَلَّمَ،
فقال له علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما: هل لك أن أحدثك حديثاً عن أبي؟ قال:
نعم!، قال له علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما: أخبرني أبي عن جدي أنه قال: قال
رسول الله صَلَّى
الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ: لا تجعلوا قبري
عيداً».
قلتُ:
إن من غرائب الأمور أن هذا الحديث «لا
تتَّخذوا قَبْرِي عِيْداً»، الذي روي عن
رسول الله صَلَّى
الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ بشكل متواتر، وكل من روى ذلك الحديث،
حتى أحفاد النبي الكرام مثل الحسن بن الحسن المثنى وعلي بن الحسين السجاد عليهم
السلام، فهمه على معناه الواقعي الذي يعني تكرار الذهاب والإياب إلى قبره صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فنهى الناس عن التردُّدِ لزيارة قبر النبي عملاً
بمفاد ذلك الحديث، ومع كل ذلك لمّا رأى ذوو التفكير الأعوج ومحبو البدع أن هذه
الجملة لا تنسجم مع بدعتهم، قالوا: إن معنى عبارة «لا تجعلوا قَبْرِي عِيْداً» أي لا تجعلوا قبري كالعيد لا تزورونه في السنة
إلا مرتين بل زوروه دائماً وكل يوم!!. ولعمري ما تفسيرهم لهذا الحديث إلا كتفسير
الوضّاعين لحديث النبيِّ الذي يقول فيه: «من
كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»
فقالوا: إن النبي قال من كذب عليّ ولم يقل من كذب لي، ونحن لا نكذب عليه بل نضع
الحديث لأجله أي أن حديثنا الكاذب ليس ضد النبي بل لصالحه ولصالح
دينه!!.
هـ
- وقال السمهودي، رغم أنه هو نفسه من مؤيدي الزيارة، في كتابه وفاء الوفاء (ص1368):
«رُوي عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد
الرحمن بن عوف الزهري أنه قال:ما رأيت أبي قط يأتي قبر النبي صَلَّى
اللهُ عَلَيْه وَآلِهِ وَسَلَّمَ وكان يكره
إتيانه!».
و
- في صدر الإسلام، حتى بعد قرابة قرن من رحلة النبي صَلَّى
الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ، كان الصحابة والتابعين ينهون الناس عن
التردد والذهاب والإياب لزيارة قبر النبي (صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)
كما تشهد بذلك الأخبار المأثورة والروايات المذكورة، والتي من جملتها ما جاء في
كتاب المصنف لعبد الرزاق الصنعاني (ج3/ص576) وسنن البيهقي: «عبد الرزاق عن الثوري عن أبي المقدام أنه سمع ابن
المسيِّب، ورأى قوماً يسلمون على النبي صلى
الله عليه وسلم قال:
ما مكث نبي في الأرض أكثر من أربعين يوماً»(34).
ومعنى
كلامه أنه بعد أربعين يوم من الوفاة والدفن في التراب، فإن زيارة النبي
صلى
الله عليه وسلم بتصور
أن روح حضرته الشريفة لا تزال في القبر أو حوله خطأ لا فائدة
منه.
إن
المتتبع لكتب التواريخ والمدقِّق فيها يرى أنه من المسلمات المعلومة أنه لم يكن في
صدر الإسلام وفي زمن حياة صحابة رسول الله والطبقة الأولى من التابعين خبرٌ أو أثرٌ
عن مسألة الزيارة بين المسلمين، ولم يتحوَّل قبرُ النبيِّ المطهر صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ أبداً إلى مزار
يتردّد إليه أصحابه الأبرار! وحتى سنة 91 هجرية عندما أمر الخليفة الأمويّ الوليد
ابن عبد الملك، عمرَ بن عبد العزيز بإصلاح ما تهدّم من جدار غرفة قبر رسول الله
صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ما كان أحدٌ يقوم حتى
ذلك الوقت بزيارة قبر النبي، كما مر معنا فيما سبق
عن اثنين من أحفاد النبي الأعلام: أي الحسن المثنى وحضرة عليّ بن الحسين - عليهم
السلام - أنهما كانا ينهيان الأشخاص الذين يأتون خصيصاً ويدخلون البيت لأجل زيارة
النبي والسلام عليه! وكلا الإمامين الجليلين كان مجاوراً لذلك القبر الشريف وكان من
أعلم الناس بتعاليم الشرّع وأفهمهم لأحكام الإسلام، لذا كان الإمامان الشريفان
حريصين أكثر من أي شخص آخر على مراعاة أحكام الإسلام والعمل بما يرضي
الله.
ومن
جملة الأدلّة التي تؤكّد أن القبر المبارك لرسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ)
لم يكن أبداً حتى لمدة قرن بعد هجرة النبيّ، مورداً لتردُّد الزائرين وذهابهم
وإيابهم إليه عملاً بنهيه (صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ) في قوله: «لا تجعلوا قبري عيداً»، ما أورده نور الدين علي بن أحمد السمهودي في كتابه
«وفاء
الوفاء»
(ص547 و548) نقلاً
عن صحيح البخاري من أنه لما عهد الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز بإصلاح
ما انهدم من مقبرة النبيّ وبشراء البيوت المحيطة بالمسجد لتوسعة الروضة الشريفة،
شاهد المسلمون قبل البدء بإقامة الجدار أثر قدم على التراب المحيط بالقبر الشريف
فأصابهم هلع من هذا المنظر وتصوروا أن ذلك أثر قدم النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ)
نفسه! فتبين لهم فيما بعد أنها بقية قدم عمر(35)،
مما يعني أنه منذ زمن عمر وحتى ذلك اليوم لم يذهب أحدٌ إلى ذلك القبر المنوَّر!
ز
- جاء في كتاب الكافي، في كتاب الجنائز (ص201/نشر المكتبة الإسلامية) عن الإمام
الصادق عليه
السلام أنه قال:
«كان قَبْرُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ مُحَصَّبٌ حَصْبَاءَ حَمْرَاءَ». وروى ابن سعد في طبقاته (ج2/ ص307) عن عمرو بن
عثمان عن قاسم بن محمد (جدّ حضرة الإمام الصادق لأمِّه) أنَّه قال: «اطلعتُ على صِغَرٍ على القبور فرأيت عليها حصباء
حمراء».
إن
مضمون حديثي الكافي والطبقات هو أنه حتى زمن الإمام الصادق - عليه
السلام - أي بعد مضي أكثر من
120 عاماً على هجرة النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ)كان قبره والطبقة
المغطية له والمؤلَّفة من حصى أحمر مجهولاً للناس، الأمر الذي حدا بالإمام الصادق
وبجده لأمه: القاسم بن محمد بن أبي بكر، أن يخبرا عنه، وكما يقول حديث القاسم بن
محمد إنه لما كان طفلاً كان يرى ذلك القبر الشريف من خلال مدّ رأسه من النافذة أو
من وراء الستائر.
ح - أثناء
إصلاح جدار البيت الذي كان فيه القبر المبارك كانت هناك طاسة خشبية أو من الفخار
إلى جانب القبر أو في رف الجدار تحطمت عندما انهار الجدار (طبقات ابن سعد، ج2/ص307،
وكتاب وفاء الوفاء ص549).
ط - لما
سقط جدار البيت، شُوهدت ثلاثة قبور لم يعرفها الخليفة الوليد بن عبد الملك إلى أن
عرّفها له عمر بن عبد العزيز بأنها لرسول الله والشيخين. فلو كانت الزيارة رائجة في
تلك الأيام لما كانت تلك القبور مجهولة تحتاج إلى من يسأل
عنها.
ي - جاء في
مصنف عبد الرزاق (ج3/ص503): «أخبرنا عبد
الرزاق عن معمر عن أيوب عن عبد الرحمن ابن القاسم بن محمد قال: سقط الحائط الذي على
قبر النبي فستر ثم بنى، فقلت للذي ستره: ارفع ناحية الستر حتى أنظر إليه، فإذا عليه
جبوب(36) وإذا
عليه رمل كأنه من رمل العرصة(37»). فهذا يدل على أن عبد الرحمن رغم كونه من
ورثة عائشة إلا أنه لم يكن قد شاهد القبر حتى ذلك الزمان!
هذه عشرة
أدلة على أن حديث لا تجعلوا قبري عيداً كان حتى قرن كامل معمولاً به بكل قوة!
تلك عشرة كاملة.
14 - أهمُّ
دليلٍ على أن تلك الزيارات الرائجة في زماننا لقبور الأئمة - حتى أننا أصبحنا نجد
كل ذلك الكم الكبير من الروايات والأحاديث المنسوبة إليهم في فضائل زياراتهم وعظيم
ثوابها - لم تكن أبداً رائجة بين مسلمي الصدر الأول وأئمة الهدى - عليهم السلام -
ولا مُعتنى بها، هو أننا لا نجد في أي تاريخ موثَّق قيامَ أيٍّ من أولئك الأولياء
والأئمّة العظام بزيارة قبر النبيّ (صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) أو قبور الأنبياء
الآخرين ولا قيام الصحابة والتابعين بالسفر وشد الرحال لأجل زيارة قبر واحد من
الأئمة، ولا يمكن أن نصدّق أن الإمام الذي يأمر الناس بعبادةٍ يمتنع هو عن
أدائها!! لأنه عندئذٍ سيشمله قوله تعالى: ((يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ؟. كَبُرَ
مَقْتًا عِنْدَ الله أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ))
الصف/2 - 3.
فمثلاً
رووا في أحاديث الزيارة الرواية التالية: «عَنْ
أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي
نَصْرٍ قَالَ قَرَأْتُ فِي كِتَابِ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه
السلام قال: أَبْلِغْ شِيعَتِي أَنَّ زِيَارَتِي تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ عَزَّ
وجَلَّ أَلْفَ حَجَّةٍ! قَالَ: فَقُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام أَلْفَ
حَجَّةٍ؟؟ قَالَ: إِي وَاللهِ وَأَلْفَ أَلْفِ حَجَّةٍ لِمَنْ زَارَهُ عَارِفاً
بِحَقِّهِ!»(38).
أفلا يحق
لنا أن نتساءل: لو كان هذا الحديث صحيحاً وكان ثواب زيارة الإمام الرضا عليه السلام
يعدل ثواب ألف حجّة، فضلاً عن أن يعدل ثواب ألف ألف حجّة، هذا مع العلم أن ثواب
الحج المستحب - طبقاً لأحاديث الإمام ذاته - أفضل من الصلاة والصوم بل أفضل من عتق
عبدٍ، بل طبقاً لروايةٍ أخرى عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه
السلام أَنَّ
رَسُولَ اللهِ (صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لَقِيَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ
لَهُ يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي خَرَجْتُ أُرِيدُ الْحَجَّ فَفَاتَنِي، وَأَنَا
رَجُلٌ مُمِيلٌ (أي غَنِيٌّ) فَمُرْنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي مَالِي مَا أَبْلُغُ بِهِ
مِثْلَ أَجْرِ الْحَاجِّ؟ قَالَ: فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ لَهُ: انْظُرْ إِلَى
أَبِي قُبَيْسٍ فَلَوْ أَنَّ أَبَا قُبَيْسٍ لَكَ ذَهَبَةً حَمْرَاءَ أَنْفَقْتَهُ
فِي سَبِيلِ اللهِ مَا بَلَغْتَ بِهِ مَا يَبْلُغُ الْحَاجُّ! ثُمَّ قَالَ: إِنَّ
الْحَاجَّ إِذَا أَخَذَ فِي جَهَازِهِ لَمْ يَرْفَعْ شَيْئاً ولَمْ يَضَعْهُ إِلَّا
كَتَبَ اللهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ ومَحَا عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ ورَفَعَ لَهُ
عَشْرَ دَرَجَاتٍ فَإِذَا رَكِبَ بَعِيرَهُ لَمْ يَرْفَعْ خُفّاً ولَمْ يَضَعْهُ
إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَإِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ خَرَجَ مِنْ
ذُنُوبِهِ فَإِذَا سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ...
الخ الحديث»(39).
فإذا كان
ثواب حج بيت الله كذلك وكان الإمام أبو جعفر محمد التقيّ(40)
عليه
السلام الذي عاش في بلاط المأمون 18 عاماً، كصهر محترم له، كما قام المأمون بدفن
أبيه حضرة الإمام الرضا عليه
السلام في
خراسان في القبة الهارونية، ولم يكن هناك أي مانع أن يزور الإمام محمد التقي قبر
أبيه الإمام الرضا المجاور لقبر والد المأمون أي هارون الرشيد، وليس ذلك فحسب بل
كان من شأن هذه الزيارة أن تدخل السرور على الخليفة! فلماذا إذن امتنع الإمام محمد
التقي عن تحصيل مثل ذلك الثواب العظيم؟! وكيف نبرِّرُ تضييعَه على نفسه ثواب مليون
حِجَّة حسب قوله، أو على الأقل ثواب ألف حجة كما جاء في كتاب والده الإمام الرضا
عليه
السلام نفسه؟!
مع أن الحجة الواحدة حسب الحديث الذ أرودناه لها كل تلك الأجر، هذا إضافةً إلى أن
مثل تلك الزيارة لو تمَّت فسيكون لها عدّة فوائد أخرى هامَّة جداً هي
التالية:
أ
- لما كان الإمام الرضا والد الإمام محمد التقي -
عليهما
السلام - فإن زيارة الأخير له سيكون لها أجر برّ الوالدين إضافة إلى نيل كل ذلك
الأجر المخصَّص لكل من يزور الإمام الرضا عليه
السلام؟.
ب
- سيصبح مثل ذلك العمل -
لو
تمّ - حجَّةً وسنداً لمن يرى أن السفر لزيارات القبور والمراقد أمرٌ مشروعٌ
ومستحبٌّ.
ج
- ستكون زيارته سبباً يدعو الآخرين وعامة المؤمنين للقيام بهذا العمل بكل اطمئنان
ويقين، فينالوا كلَّ ذلك الأجر العظيم.
ومع
كل ذلك، لم يقم الإمام محمد التقي بمثل تلك الزيارة، فإن قيل: لم يفعل ذلك لما فيها
من مشقّة السفر إذْ إنه توجد بين بغداد التي كان الإمام محمد التقي مقيماً فيها
وخراسان موضع قبر والده الرضا، مسافةٌ كبيرةٌ وسفرٌ شاقٌّ، قلنا: إن هذا السفر لم
يكن صعباً عل الإمام محمد التقي عليه
السلام وذلك
بفضل وسائل الرفاهية والراحة التي كان المأمون قد وضعها تحت تصرفه.
والواقع
أن الإمام محمد التقي (الجواد) لم يزُرْ والده الرضا وليس هذا فحسب بل لم يقم حتى
بزيارة جده الكريم موسى بن جعفر الذي كان قريباً منه في مقابر قريش قرب بغداد
(والتي تحولت إلى منطقة الكاظمية اليوم)، هذا رغم ما رووا عن أبيه الإمام الرضا في
كتب الحديث من
أحاديث عديدة تبين عظيم الأجر والثواب لمثل هذه الزيارة بالإضافة إلى أن فيها براً
للوالدين وفيها ردّاً وإنكاراً على الواقفيّة الذين كانوا يتصورون أن الإمام الكاظم
لا يزال حياً وأنه قائم آل محمد وأنه آخر أئمة آل البيت، فزيارة قبر جده الكاظم كان
من شأنها أن تقلِّلَ من عدد أولئك الواقفيّة، فضلاً عن أن مثل تلك الزيارة تؤدي إلى
تصديق الروايات التي وردت أو نُقِلَتْ عن أبيه الإمام
الرضا
في ثواب زيارة جدِّه!
إذا
لاحظنا تلك الروايات ولاحظنا وسائل التيسير والرفاهية التي كانت ميسَّرة للإمام
محمد الجواد فيمكننا أن نعتبره - والعياذ بالله - مقصراً في دينه من عدة جهات! لأنه
علاوة على عدم زيارته قبر أبيه وجده عليهما السلام امتنع أيضاً عن زيارة ذلك الشخص
الذي له حق كبير ليس على الإمام الجواد فقط بل على كل مسلمي العالم ألا وهو مولى
الموحدين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه
السلام الذي كان قبره - حسب
المشهور - في النجف أي قرب بغداد التي كانت مقراً وسكناً لصهر الخليفة الإمام محمد
التقي (الجواد) آنذاك.
هذا مع أن
زيارة حضرة أمير المؤمنين كانت واجبة على الإمام محمد التقي (الجواد) من عدة جهات:
أ - وردت
أحاديث كثيرة عن الأئمة عليهم السلام تبين الثواب الذي لا حصر له لزائري أمير
المؤمنين بل فيها تهديدات مخيفة! لمن لا يقوم بتلك الزيارة، كتلك الرواية المروية
عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «مَنْ
تَرَكَ زِيَارَةَ أَمِيرِ المُؤمِنِينَ عليه السلام لَمْ يَنْظُرِ اللهُ
إِلَيْهِ! أَلَا تَزُورُونَ مَنْ تَزُورُهُ الْملَائِكَةُ؟!»(41)، وهذا
تهديدٌ ليس من السهل - لو صحّت الرواية - عدم الاعتناء به.
ب - في
زيارة أمير المؤمنين ثواب بر الوالدين إضافة إلى ثواب الزيارة لأنه أبو
الأئمّة.
ج - لو عمل
الإمام بذلك الأمر لخفَّف من الكراهة المشهورة لزيارات القبور، وعلى العكس من ذلك
يشكلِّ امتناعُه عن الزيارة وامتناعُ الأئمّة من قبله ومن بعده دليلاً كبيراً على
صحّة مذهب القائلين بعدم أهميّة ولا استحباب الزيارة!.
د - إن
زيارةَ الإمام الجواد قبرَ أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في النجف ستكون تصديقاً
لصحة مكان المزار الذي اختاره هارون الرشيد اعتماداً على الحَدْسِ والظنِّ
واستناداً إلى قول أحد الفلاحين حول موضع قبر مولى المتقين عليه السلام، فبنى عليه
قبر عليّ الذي لم يوافق أكثر المؤرخين على صحة مكانه!!
وعليه فلو
أن الإمام الجواد قام بزيارة ذلك المزار العلوي لكان المأمون أول من يُسَرُّ بذلك
ويمتنُّ له، لأن أبا المأمون - أي هارون - هو الذي وضع أساس ضريح النجف، هذا إضافة
إلى أن ذلك سيكون دليلاً على صحة روايات فضائل الزيارة.
إذن، عندما
نجد أن حضرة الإمام الجواد عليه السلام الذي كان يمتلك - أكثر بكثير من الأئمة قبله
- إمكانية القيام بعمل كثير الثواب مثل زيارة قبور آبائه الكرام، والتي لها من
الأجر - طبقاً للروايات المنسوبة إليه - ما يفوق ما رُوِيَ من ثواب الزيارة عن جميع
الأئمّة، مثل ما نُسِبَ إليه من أن زيارة واحدة لحضرة الرضا عليه
السلام - التي تعادل ألف حجّة
في فيما نَقِل عن الإمام الرضا نفسه - تعادل فيما روي عن الإمام الجواد ألف ألف
حجّة!(42)، ورغم ذلك
لم يبادر هو إلى ذلك الأمر، فهذا يضع علامات استفهام كبيرة على كل تلك الروايات، بل
إننا على يقين أن تلك الروايات إنما نُسِبَتْ إليه كَذِباً ولم ينطق بمثلها قط!.
ومثلها كل الروايات التي نُسِبَتْ سواء إلى الإمام الجواد أو إلى سائر الأئمة -
سلام الله عليهم - حول الثواب الجزيل والأجر العميم للزيارات، فهي موضوعة على
ألسنتهم ولا صحة لها، كيف لا ولو صحَّت تلك الروايات فإن الأئمّة سيشملهم عندئذ -
والعياذ بالله - قوله تعالى: ((يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ؟))
(الصف/2)، ونحن لا
يمكننا أبداً أن نعتقد بمثل هذا في حق أولئك الأئمة الكرام والهداة العظام سلامُ
الله عليهم أجمعين.
والحاصل أن
ثمَّةَ حقيقةً هامَّةً ذات دلالاتٍ كبيرةٍ تسترعي انتباه كلِّ مُنْصفٍ هي أنه لو
تتبعنا كل التواريخ الموثَّقة لا يمكننا أن نجد أيَّ خبرٍ يَذْكُرُ سفر أيِّ
إمام لزيارة مرقد أي إمام آخر من الأئمة عليهم السلام! أما ما رُويَ من زيارة
الإمام الصادق عليه السلام لقبر أمير المؤمنين عليه السلام فسنبين في الصفحات
التالية من هذا الكتاب ضعف تلك الرواية ووَهَنِهَا.
+
+
+
تبيَّن من
الأدلة العقلة والنقلية التي أوردناها، أن مسالة زيارة المراقد التي اتَّسعت
وكَثُرَ الاهتمامُ بها في هذه الأمة إلى هذا الحد الذي ظن فيه أكثر الناس أنها من
الواجبات الدينية الأساسية، وأنها ركنٌ هامٌّ من أركان الإسلام!، لا تستند في
الواقع إلى أي أصل من أصول الدين، بل إن كثيراً مما يحف بها ويحصل خلالها هو من
البدع المحرَّمة!!.
ولعل
القارئ الكريم يتساءل: إذن فما قصَّة كل تلك الروايات والأحاديث الموجودة في كتب
الفريقين الشيعة والسنة حول الزيارة؟؟ وكيف قامت كل تلك المزارات والأضرحة المنتشرة
اليوم في البلدان الإسلامية والمبنيّة على قبور الأموات وأصبحت تأتيها قوافل الزوار
من الشرق والغرب ومن كل حدب وصوب، منهم من يقيم حولها ويعتكف بها، ومنهم من يتردَّد
إليها في كل فصل ومناسبة؟! وما الذي أدى إلى انتشار كل هذه الكتب والرسائل المتعلقة
بالزيارات وآدابها التي حررها علماءٌ أعلامٌ؟! إلى الحد الذي قد يمكننا أن نستخرج
فيه من كتب الشيعة الإمامية فقط، أمثال كتاب «كامل الزيارات» لابن قولويه القمِّي(43) وكتاب
«الكافي» للشيخ محمد بن يعقوب الكُلَيْنِيّ(44) وكُتُب
«تهذيب الأحكام» و«الاستبصار»
و«مصباح
المتهجِّد»
للشيخ أبي جعفر الطوسي(45)، وسائر
الرسائل والصحائف قرابة ألف حديث ورواية حول ثواب الزيارة وآداب الدخول إلى المشاهد
والمزارات ونصوص وأدعية الزيارات المتعددة والتي يتضمن بعضها عبارات مثل: «السلام على عين الله الناظرة ويده
الباسطة!»، والتي جعلت حضرة آية الله العظمى
(!) السيد أبو الفضل النبوي يستند إليها في كتابه «اُمرايِ هستي» (أي «أمراء
الكون»!!) ليثبت الولاية التكوينية للأئمة
عليهم السلام! فهل من الممكن أن يكون كل هذا الكلام لغواً وباطلاً؟!
لذا سنقوم
- بعون الله تعالى - في هذه الرسالة المختصرة بتوضيح هذه القضية إلى حدِّ الإمكان،
فنقول وبالله التوفيق:
أولاً يجب
أن نشير إلى نقطة مهمة هي أنه لا ينبغي أن نصاب بالهلع لكثرة الأحاديث والكتب
والرسائل التي كتبت في هذا الباب أو في أي موضوع آخر، لأن كلَّ مَنْ له إلمام وشغل
بالكتب والرسائل وله خبرة بالروايات والأحاديث والأخبار، يعلم أن كثيراً من هذه
الكتب لا يستحق الالتفات إليه بل أفضل خدمة نقدمها للبشرية وللإسلام هي أن نرميها
في عرض البحر!!. كما لا أهمية لكثرة الأحاديث وغزارتها في بعض المواضيع لأنه لا بد
من عرض كل هذه الروايات على الدلائل القرآنية والعقلية والحسية والتاريخية فإذا
خالفتها تأكد لنا أنها روايات لا أساس لها من الصحة مهما كَثُرَت!
ولا يخفى
عليك أيها القارئ الحصيف أنَّه لو صَحَّتْ مئات الأحاديث التي رُوِيَتْ حول زيارات
المراقد لكان أهم قبر يستحق أن تُطَبَّقَ عليه هو القبر الشريف المنَوَّر لنبيِّ
الله صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ، والذي ذكر الشيعة
والسنة في كتبهم أحاديث عديدة حول فضل زيارته! هذا في حين أننا أثبتنا بالدلائل
النقلية والتاريخية والعقلية أن قبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ لم يكن مزاراً أي لم
يكن الصحابة الكبار يترددون إليه أو يشدون رحالهم إليه لزيارته حتى قرابة قرن كامل
بعد رحلته صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فضلاً عن السفر
لزيارة أضرحة أخرى لأئمّة أو أولياء صالحين.
وبالتالي
فإذا لم يكن قبرُ رسول الله مزاراً للمسلمين في صدر الإسلام بل كان أصحابُ النبيِّ
الأخيار وأحفاده من أهل بيته الكرام ينهَوْنَ بعض العوام الذين لا اطلاع لهم
على أحكام الإسلام عن المجيء الخاص إلى ناحية قبره للسلام عليه، ويعلمونهم السلام
عليه من أماكنهم، فأي اعتبار إذن لتلك الأحاديث الواردة في هذا الموضوع؟ أفلا يدل
ذلك على أنها من الأخبار الدخيلة التي طرأت على الإسلام؟؟.
وكلُّنا
يعلم أن الإسلام لم يبقَ محصوراً في المكان الذي ظهر فيه (مكة والمدينة)، بل وصل
بفضل الله وببركة جهود مسلمي صدر الإسلام إلى أقصى نقاط المعمورة، وخضعت له بلدان
العالم في الشرق والغرب - والتي كان لها عادات وآداب وسنن دينية واجتماعية نابعة من
حضارتها الخاصة -، ومن جملة ذلك كان في بعض البلدان ذات الحضارة، في تلك الأيام،
احترامٌ كبيرٌ للأموات، فكانوا يبنون على قبور العظماء أبنيةً خاصّةً، كما كان
الحال في مصر مثلاً التي يوجد فيها كثيرٌ من مقابر الملوك، وما الأهرامات الثلاث
التي بُنيت فوق قبور الفراعنة إلا دليل واضح على مدى اهتمامهم بقبور عظمائهم، وكذلك
نجد في أطراف إيران قبور «كورش
الكبير»
و«داريوش»
و«بازرقاد»
و«كوردختر»
وسائر تلك الآثار التي ما نشأت إلا من الاهتمام بالأموات وتعظيمهم، وفي الحجاز نفسه
كان عرب الجاهلية المشركين يؤمنون بقدرات كبيرة وتأثير للأموات السابقين، والظاهر
أن أحد علل النهي عن زيارات القبور في بدء الدعوة هو هذه العقيدة الجاهلية الفاسدة
التي تتصور أن بعض الأموات السابقين لهم قدرة وإحاطة وتصرف في أحوال الأحياء، وقد
سعى الإسلام بكل قوة للقضاء على هذه العقائد ومحو آثار الجاهلية الخاطئة.
ولكننا
نرى أنه بعد غروب شمس النبوَّة بدأت آثار الجاهلية تعود تدريجيّاً إلى الحياة من
جديد، خاصَّةً بعد اختلاط المسلمين بشعوب الأمم المفتوحة التي كانت تتفوَّق عليهم
في العراقة والمدنية ولاسيما في عهد العباسيين عندما أصبحت الدولة والخلافة
الإسلامية تحت تصرُّف نبلاء العجم وأشراف إيران! فانتقل كثيرٌ من العادات والآداب
والتقاليد الإيرانية تدريجياً إلى المسلمين وراجت بينهم بوصفها آداباً إسلامية!،
ومن جملة ذلك آداب وسنن تجهيز الأموات مثل تشييع جنائز الأشراف برفع الرايات
والأعلام وضرب الطبول والمزامير وبناء الأضرحة وإشعال المصابيح وغير ذلك من
التقاليد. وبهذا سرت مسألة أهمية زيارة الأموات إلى المسلمين وبدأت
تزدهر.
فَعِلَّةُ
ذلك الانتشار الواسع لموضوع زيارات القبور إذن هي بكل بساطة تقليد المسلمين لسنن
وآداب الشعوب غير الإسلامية واتباعها والتأثر بها.
ولكن
يجب أن نبحث لماذا جاءت في كتب الحديث وكتب الزيارات كل تلك الأحاديث في ثواب
وفضيلة زيارات الأموات، وهذا هو الهدف الأصلي من تأليف هذه الرسالة خاصة أنه في
مذهب الشيعة أصبحت زيارات المراقد والقبور من أهم وأكبر العبادات إلى درجة طغت فيها
من ناحية الثواب والاهتمام بها على سائر العبادات الأخرى!!.
+
+
+
يمكننا
أن نجمل علّة الاهتمام الزائد بزيارات مراقد الأئمّة والأولياء، لدينا معشر الشيعة
الإمامية، بالأمرين التاليين:
1
- لقد كان لسياسة الشيعة دورٌ هامٌّ في أمر الدين ومسألة الزيارة. وعلّة ذلك أنَّ
تلك الفئة من الصحابة الذين كانوا من مؤيدي حضرة أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب عليه السلام في أواخر حياة رسول الله والذين كانوا يرونه أفضل الصحابة وأولاهم
بالخلافة، اضطروا هم ومن آمن بفكرتهم من أتباع وشيعة أمير المؤمنين، بعد استلام
معاوية الحكمَ عقب صلح الإمام الحسن عليه
السلام، إلى التخفّي
والاستتار نظراً لما وقع عليهم من ملاحقات واضطهاد، ولم تُكَلَّل محاولات نقل الحكم
من بني أميَّة إلى آل عليٍّ بالنجاح إلى أن وقعت فاجعة كربلاء الدموية الأليمة،
فلجأ من بقي من شيعة أهل البيت من معارضي أعداء الحكومة الأموية، والذين لم يكونوا
جميعاً على مستوىً كبير من العلم والتقوى، بل كان كثيرٌ منهم من الأصدقاء الجهلاء،
إلى السعي إلى إضعاف الأمويين عن طريق إقناع الناس بعدم مشروعية حكومتهم وتحريض
الناس ضد بني أمية عن طريق نشر فضائل الإمام علي والإمامين الحسن والحسين عليهم
السلام والتي كانت لا تزال مستقرة في صدور بقية أصحاب رسول الله كالبحر الزخّار
هذا
من جهة، وقد تسربت من هذا الطريق بعض الأخبار الموضوعة التي وضعها بعض المتحمّسين،
ومن الجهة الأخرى قاموا بذكر آلام ومصائب آل عليٍّ الأبرار التي تعرّضوا لها على
أيدي الظلمة من بني أمية لا سيما شهادة سيد الأحرار الحسين بن علي عليهما السلام،
وهنا أيضاً لم يُقَصِّر بعض الغلاة من وضع الأخبار في هذا المجال، إلى أن دالت دولة
بني أمية على أيدي بني العباس الذين أوقعوا من الظلم على آل عليٍّ ما فاق ظلم بني
أميّة لهم! فاستمرَّت - نتيجةً لذلك - تلك الطريقة، أي ذكر ظلم المخالفين ومصائب
أهل البيت عليهم السلام وبيان فضائل العترة الكثيرة، ومن البديهي أن مثل هذه
الأعمال (أي الزيارات وقراءة المراثي وإقامة المآتم ومجالس العزاء) تلعب دوراً
كبيراً في تحميس الناس وإثارتهم، فلا غرابة أن نجد أن سوق وضع الأخبار والأحاديث في
ثواب الزيارات وفي الأجر الجزيل لمن يقيم أو يحضر مراثي ومآتم آل البيت يروج
ويزدهر، وتُنْسَبُ في هذا المجال أحاديث وروايات كثيرة إلى أئمة آل البيت عليهم
السلام! لأن ذلك من شأنه أن يؤثِّر كثيراً في الناس وإن كان تأثيراً مؤقتاً سريع
الزوال!.
ولعلَّ
بعض القرّاء الكرام يستبعد أن يقوم بعض المتدينين المحبين لآل الرسول بوضع الأحاديث
على ألسنة الأئمة، ولكن كل من له اطلاع جيد على تاريخ الحديث الشريف وسيرته يعلم أن
مثل هذا الأمر سهلٌ بالنسبة إلى أصحاب الأهواء السياسية الجامحة الذين يسعون لتحقيق
مصالح مبدئهم الذي يوقنون بصحَّته، وهذا ما سيطلع عليه القارئ فيما يلي إن شاء
الله.
2
- أما العلّة الثانية المؤثّرة في وضع مثل هذه الأحاديث (أحاديث المناقب وفضائل
الزيارات وثواب المآتم...الخ) فهي عداوة بعض المتظاهرين بالإسلام الباطنية لهذا
الدين الحنيف ولتعاليم القرآن الحقَّة وكراهيتهم لحقائق الإسلام وأحكامه، والتي
دفعتهم إلى السعي لتخريبه من الداخل بوضع الأحاديث الكاذبة. وتفصيل ذلك أن القرآن
الكريم كان نوراً أشع من نور الربوبية واعتبر الإنسان رهين أعماله فقال:
((كُلُّ
امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ))
(الطور/21). وقال: ((فَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرَاً يَرَهُ. وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرَّاً يَرَهُ))
(الزلزلة/8 - 9).
ومثل
هذه الدقّة في الحساب لم تكن ترُقْ لزنادقةٍ كانوا يرغبون أن تبقى أبواب الشهوات
أمامهم مُشْرَعَة، وأن تُتاح لهم ملذَّات الدنيا بلا رقيب ولا سؤال ولا محاسبة
دقيقة يوم القيامة، فكان لزاماً عليهم أن يخترعوا طرقاً تبرِّر نجاة الإنسان - مهما
عمل - من شدة عذاب اليوم العظيم، وتؤمّنه من مخاطر يوم الحسرة والندامة، بل تُغدق
عليه الحورَ والقصورَ في جنان الخلد والرضوان ولو كانت صحائف أعماله
سوداء!.
مثل هذه الرغبات أوجدت وضّاعين يضعون
أحاديثَ تجعل الفاجرين والفاسقين يتمتَّعون بنعمة الشفاعة وتجعل هذه النعمة متاحةً
لمن يتوسل ويتضرع أمام مرقد إمامٍ مُتَوَفَّى أو ولِيٍّ مَيِّتٍ أو لمن يزور قبر
إمام ويدعو عنده ببعض الكلمات غير المفهومة باسم دعاء مأثور، فيصبح بذلك مسلوب
العيوب مغفور الذنوب، ويرتاح بمجرَّد قيامه بمثل هذه الأعمال المبتدعة من تجشُّم
عناء العبادات ورعاية أحكام الحلال والحرام ويدخل في نهاية المطاف بكل عزة واحترام
في جنة الرضوان!
وفي
الواقع لقد ابتدأ ظهور مثل هذه الأحاديث التي كان الوضّاعون - الذين لا شك في
نفاقهم وعداوتهم الباطنية للإسلام وكراهتهم لما أنزل الله من أحكام - يفترونها
دفعاً لأوامر القرآن ونواهيه، منذ زمن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ
وَسَلَّمَ مما دعا رسول الله إلى أن
يقوم ويحذر الناس من هذا الخطر، كما نقل عنه ذلك أمير المؤمنين عليه
السلام حين قال: «لقَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عَهْدِهِ حَتَّى قَامَ خَطِيباً فَقَالَ: مَنْ
كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.»(46).
ولكن أصحاب
رسول الله الأخيار رضي الله عنهم كانوا لا يزالون منتشرين في البلاد فما كان أحد
يجرؤ على بثِّ أحاديث ملفَّقة، لذا كان سوق الأحاديث الباطلة لا يزال كاسداً، لكنه
بدأ يروج تدريجياً فيما بعد هروباً من تعاليم القرآن الصارمة، كما بيَّن ذلك سلمان
المحمّدي فيما نقله عنه حضرة الإمام أبي جعفرٍ الباقر عليه
السلام في الحديث التالي الذي
أخرجه الكشي في رجاله فقال: «عن محمد بن
حكيم، قال ذُكِرَ عند أبي جعفر عليه
السلام سلمانُ، فقال ذلك
سلمانُ المحمدي، إن سلمان منَّا أهلَ البيت، إنه كان يقول للناس هربتم من القرآن
إلى الأحاديث، وجدتم كتاباً رقيقاً حوسبتم فيه على النقير والقطمير والفتيل وحبة
خردل فضاق ذلك عليكم وهربتم إلى الأحاديث التي اتسعت عليكم»(47).
هذا ورغم
أن تدوين الأحاديث في بدء عهد بعثة رسول الله (صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) كان ممنوعاً خشية أن
يختلط بالقرآن الكريم، ثم سُمح لأفراد قلَّة مثل عبد الله بن عمرو بن العاص - بناءً
على بعض الروايات - أن يكتب ما كان يسمعه من رسول الله، واستمرّ التوقي من نقل
وكتابة الحديث بعد رحلة النبي خشيةً من الصحابة أن يبدِّلوا عبارة أو كلمة من كلام
رسول الله (صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) دون
قصد(48)، كما روت
عائشة «إن أباها (أبا بكر) جمع حدود خمسمئة
حديثٍ عن رسول الله في دفتر خاص فبات ليلته يتقلب كثيراً! قالت فقلتُ: أتتقلب لشكوى
أو لشيء بلغك؟ فلما أصبح قال: أيّ بُنَيَّة هَلُمِّي الأحاديث التي عندك! فجئته
بها، فدعا بنا فحرقها. فقلت: لمَ أحرقتها؟ قال خشيتُ أن أموت وهي عندي فيكون فيها
أحاديث عن رجل قد ائتمنتُهُ ووثقتُ به ولم يكن كما حدَّثني فأكون قد نقلتُ ذاك»(49).
ولكن بعد
مرور قرن من الزمن سمح عمر بن عبد العزيز بتدوين الأحاديث فكثر التدوين وراج وأصبح
نقل الروايات والأخبار من مفاخر وامتيازات ذلك العهد ووصل الأمر إلى حد أن أصبح بيع
وشراء الأخبار من أغلى متاع ذلك الزمن! ومن المعروف أنه قبل ذلك في عهد معاوية بن
أبي سفيان، كان أبو هريرة أو سمرة بن جندب (أو شخصٌ آخر) قد قبض كلٌّ منهما من
معاوية أربعمئة ألف درهم ليروي حديثاً واحداً كاذباً!
وفي
النهاية وصلت كثرة الأحاديث في زمن الإمام أحمد بن حنبل إلى درجة أنه جمع
مسنده الذي يضم الآن بضعة وثلاثين ألف حديث من أصل مليون حديث! كما جمع
الإمام البخاري صحيحه الذي يضم الآن سبعة آلاف حديث من أصل سبعمئة وخمسين
ألف حديث، وكذا اختار مسلم أحاديث صحيحه البالغة أربعة آلاف من أصل
ثلاثمئة ألف حديث!
ولم يكن
هذا العمل - أي حركة الوضع - مقتصراً على أشخاصٍ في أوساط العامة المشتهرين بأهل
السنة بل كانت شدته أكثر في أوساط الفريق الذي يطلق عليه اليوم اسم الشيعة، وكانوا
يُنْبَذُون في ذلك الزمن بلقب الرافضة، الذين كانوا في الواقع أحزاباً سريَّةً،
فكان وضع الحديث لديهم أكثر، وعلة ذلك أن معارفهم وآثارهم لم تكن تحت الرقابة ولا
كانت مشهورةً ولم تبقَ لدى حزب خاصٍ أو جماعة محددة بل كانت كل يوم تنتشر وتُتَناقل
خُفْيَةً من جماعة إلى أخرى إلى حد أن جماعة واحدة كانت تنشعب إلى عشر جماعات
أحياناً.
وكان أكثر
الوضّاعين الكذَّابين في العراق، إلى حدِّ قول بعضهم أن من كل ألف حديث لمحدِّثي
العراق، 999 منها كذبٌ، وواحدٌ منها موضعُ شكّ!!.
وعلينا أن
نعترف بحقيقة أن كثيراً ممن يعادون الإسلام في باطنهم كانوا يتظاهرون بأنهم من شيعة
عليٍّ وآل البيت عليهم السلام، وكانوا يوجِّهون ضرباتهم المهلكة لجسم الإسلام، وكان
أهم أسلحتهم وضع الحديث!! وهذه الحقيقة ستتأكد أكثر للقراء الكرام عندما يقومون
بمطالعة كتب الملل والنحل لاسيما تلك التي كتبها علماء الشيعة الأعلام حول فرق
ومقالات الشيعة وذلك مثل كتاب «المقالات
والفرق»
لـ«سعد بن عبد الله الأشعري» رحمه الله المتوفى سنة 301 هجرية، والذي كان من
أعلام الشيعة وخواص أصحاب الأئمة عليهم السلام، أو كتاب «فرق الشيعة» تأليف «أبو
محمد الحسن بن موسى النوبختي» رحمه الله
المتوفى 300 هـ ق، والذي يُعَدُّ من كبار علماء الشيعة الإمامية أيضاً ومن أسرة
معروفة بالعلم والفضل.
لقد
ذكر هذان المؤلفان «رحمهما الله» أكثرَ تلك الفرق التي كانت خارجة عن الإسلام أثناء
بيانهم لفرق الشيعة مثل: السبئية والكيسانية والمغيرية والسرحوبية والرافضية
والإسماعيلية والفطحية والواقفية والخطابية والنميرية وغيرهم، مما يُبَيِّنُ كيف
أصبح الاسمُ المبارك لعلي بن أبي طالب عليه السلام وما عاناه هو وأبناؤه الكرام -
الذين اشتهروا في الآفاق بالعدل وحسن السيرة - من ظُلْمٍ وحَيْفٍ، ملجأً يتستَّر
خلفه بعض المنحرفين والزنادقة الذين يضمرون كره الإسلام ويسعون في خراب بنيانه،
فاستطاعوا من خلال وضعهم للأحاديث وإحداثهم للمذاهب المبتدعة أن يمزقوا جسد المجتمع
الإسلامي إرباً إرباً!.
وخلاصة
ما تقدَّم أنه كان هناك دافعان لوضع الحديث: الدافع الأول الهوى السياسي ونصرة قضية
آل البيت ومظلوميتهم، والدافع الثاني ذو شعبتين أولهما الفرار من القرآن ليصبح
الإنسان بواسطة الأحاديث الموضوعة في مأمن من إنذاراته وتخويفاته ويصبح أكثر حرية
في إشباع شهواته ورغباته، والثاني السعي إلى هدم الإسلام من داخله، وأحياناً كان
الدافعان يجتمعان لدى الشخص أو الجماعة ذاتها! راجعوا أيها القراء الكرام الكتابين
المذكورين للعالمين الشيعيين الجليلين سعد بن عبد الله الأشعري والحسن بن موسى
النوبختي، رحمة الله عليهما، وانظروا كيف أن الذين أسسوا المذاهب والفرق العديدة
كانوا يضعون الأخبار لحرف الناس عن أحكام الحلال والحرام وتشجيعهم على ارتكاب
المحرمات!
مثلاً
تلك الفرقة من أصحاب أبي الخطاب الأسديّ التي كانت تشكل في ذلك الزمن إحدى فرق
الشيعة كانت - طبقاً لما جاء في كتاب المقالات والفرق (ص51، طبع طهران): «أحلُّوا المحارم من الزنا والسرقة وشرب الخمر
وتركوا الزكاة والصلاة والصيام والحج، وأباحوا الشهوات بعضهم لبعض...»! وهذه العبارة ذاتها نقلها النوبختي في كتابه فرق
الشيعة أيضاَ (ص61/ طبع النجف) باختلاف يسير في ألفاظها حيث زاد على المحرمات
اللواط والسرقة!!.
كما
نقل صاحب كتاب«المقالات والفرق» (ص57) عن فرقةٍ تُدْعَى المجسِّمة أنهم: «وأباحوا الفروج كلها وأبطلوا النكاح
والطلاق...»! وللاطلاع على سائر العقائد
الفاسدة للفرق المنحرفة أمثال الإسماعيلية والنصيرية والنميرية راجعوا الصفحات: 63
و92 و100 من كتاب «المقالات والفرق»، والصفحات 81 و105 و116 من كتاب «فرق الشيعة» لكي تتأكدوا أن من أهم أهداف واضعي الحديث ومؤسسي
الفرق الضالة الفرار من أحكام الإسلام وتخريبها.
ولعل
قائلاً يقول: إن تلك الفرق التي ذكرت أنها كانت من ضمن فرق الشيعة في ذلك الزمن هي
فرقٌ مرفوضةٌ اليوم في نظر الشيعة الإمامية. وثانياً لم يبقَ على وجه الأرض أي
واحدة من تلك الفرق الضالَّة في يومنا هذا ولله الحمد، فما علاقة تلك الفرق فيما
نحن فيه؟
أقول: صحيحٌ أن تلك الفرق القديمة المغالية
مرفوضةٌ في نظر الشيعة الإمامية وتعتبر في نظرهم من الفرق الضالّة، لكن لا تزال
هناك أخبارٌ وآثارٌ عديدةٌ لهم وجدت طريقها إلى ثنايا كتب حديث الشيعة
الإمامية، التي اختلط فيها الحق بالباطل، وامتزجت فيها الآثار الباقية عن
الأئمة الهداة - عليهم السلام - بأقاويل منقولة عن رجالات تلك الفرق، ولم يتم إلى
يومنا هذا - مع الأسف الشديد - عملٌ جديٌّ شاملٌ لفرز الدخيل عن الأصيل وتمييز
الموضوع عن الصحيح!
هذا
علاوةً على أن كثيراً من رواة أخبار وأحاديث الشيعة الإمامية هم من أتباع تلك
المذاهب الباطلة ذاتهم مثل الفَطَحِيَّة والوَاقِفِية والشَلْمَغَانيّة وحتى بعض
أولئك الذين اشتهروا بأنهم من كبار أصحاب الأئمة، كانوا من قَبْلُ من أتباع بعض تلك
المذاهب الباطلة وأمضوا فيها مدَّةً من حياتهم قبل أن يرجعوا إلى مذهب الإمامية
وذلك مثل أبناء أعين وأبو خديجة والمعلّى بن خنيس وغيرهم. فإذا لم نتمسَّك
بالقرآن الكريم ونرجع إليه ونجعله حكماً لتمييز الصحيح من الخطأ فإن عملية تفكيك
وتفريق الأخبار والآثار التي رواها أولئك زمن اعتقادهم بمذهبهم السابق وتلك التي
رووها بعد رجوعهم إلى مذهب الإمامية ستكون عمليّةً عسيرةً
للغاية.
+
+
+
بغض
النظر عن عيوبها الأخرى، توجد في كتب الحديث المعتبرة لدى الشيعة الإمامية أحاديث
موضوعة تحمل رائحة المذاهب الباطلة وطعمها ذاته، فيظهر أنها تسرَّبت من أولئك
الغلاة أصحاب دعاوى إسقاط التكاليف إذْ تدعو الإنسان بشكل غير مباشر إلى التجرؤ على
الذنوب وفعل ما نهى القرآن عنه! وإليكم بعض الأمثلة:
1
- روى الشيخ الصدوق ابن بابويه القمي في «الأمالي»
في «المجلس الثمانون» (ص 539) ضمن بيان فضيلة شهر رجب وثواب صيامه الرواية
التالية:
«...
ومن صام من رجب تسعةً وعشرين يوماً غفر الله عزَّ وجلَّ له ولو كان عشّاراً أو لو
كانت امرأة فجرت بسبعين مرَّةً [امرأً] بعد ما أرادت به وجه الله والخلاص من جهنم
لغفر الله لها!......».
لاحظ
أيها القارئ الكريم أنه بصيام تسعة وعشرين يوماً يمكن للمرأة المومس التي زنت سبعين
مرَّة ربما في سبعين رجلاً أي زنت 4900 مرَّة أن يُغْفَر
لها!!
2
- وذكر العلامة الحلي في كتابه الفقهي «منتهى
المطلب» (ج1/ص461) روايةً غريبةً لا سند لها
ولا مصدرٍ، فقال: «[الرابع] يُسْتَحَبُّ أن
يجعل معه شيئاً من تربة الحسين عليه السلام طلباً للبركة والاحتراز من
العذاب (والستر) من العقاب، فقد رُوِيَ أن امرأة كانت تزني تضع أولادها فتحرقهم
بالنار خوفاً من أهلها ولم يعلم به غير أمّها، فلما ماتت دُفِنَتْ فانكشف التراب
عنها ولم تقبلها الأرض فنُقِلَتْ عن ذلك الموضع إلى غيره فجرى لها ذلك، فجاء أهلها
إلى الصادق عليه السلام وحكوا له القصة فقال لأمِّها ما كانت تصنع هذه في
حيوتها من المعاصي؟ فأخبرته بباطن أمرها، فقال عليه السلام: إن الأرض لا
تقبل هذه لأنها كانت تعذب خلق الله بعذاب الله، اجعلوا في قبرها شيئاً من تربة
الحسين عليه السلام، ففعل ذلك فسترها الله تعالى»!!.
أجل،
بمقدارٍ قليلٍ من التربة يُرْفَعُ العذاب عن جرائم بمثل تلك الفظاعة والبشاعة التي
يهتزّ لهولها العرش!!
3
- في المجلد التاسع عشر من بحار الأنوار (ص302/طبع كمپاني) ينقل المجلسي عن كتاب
«مهج الدعوات» للسيد بن طاووس(50)
الرواية التالية، قال:
«رويناه
بإسنادنا إلى سعد بن عبد الله قال حدثنا أحمد بن محمد عن الحسن بن علي بن فضال عن
الحسين بن الجهم عمن حدثه عن الحسن بن محبوب أو غيره عن معاوية بن وهب عن أبي عبد
الله (الإمام الصادق) عليه
السلام قال:
إن عندنا ما نكتمه
ولا نعلِّمُهُ غيرَنا، أشهد على أبي أنه حدثني عن أبيه عن جده قال: قال لي علي
بن أبي طالب عليه
السلام: يا بُنَيّ! إنه لا بد
من أن تمضي مقادير الله وأحكامه على ما أَحَبَّ وقضى وسيُنْفِذُ الله قضاءه وقدره
وحكمه فيك، فعاهِدْني أن لا تلفظ بكلام أستره إليك حتى أموت وبعد موتي باثني عشر
شهراً وأخبرك بخبر أصله عن الله: تقول غداوة وعشية فيشتغل به ألف ألف ملك يُعْطَى
كلٌّ منهم قوة ألف ألف كاتب في سرعة الكتابة ويوكل بالاستغفار لك ألف ألف ملك
يُعْطَى كل ملك مستغفر قوة ألف ألف متكلم في سرعة الكلام ويبنى لك في دار السلام
ألف ألف بيت في مائة قصر يكون فيه من جيران أهله ويبنى لك في الفردوس ألف بيت في
مائة قصر يكون لك جار جدك ويبنى لك في جنات عدن ألف ألف مدينة ويحشر معك في قبرك
كتاب يقول ها أنا لا سبيل عليك للفزع ولا للخوف ولا لزلازل الصراط ولا لعذاب النار
ولا تدعو بدعوة فتحب أن تجاب في يومك فيمسي عليك يومك إلا أتاك كائنة ما كانت بالغة
ما بلغت في أي نحو كانت ولا تموت إلا شهيداً وتحيي ما حييت وأنت سعيد ولا يصيبك
فقرٌ أبداً ولا جنونٌ ولا بلوى ويُكْتَب لك في كل يوم بعدد الثقلين كل نفس ألف ألف
حسنة ويمحى عنك ألف ألف سيئة ويرفع لك ألف ألف درجة ويستغفر لك العرش والكرسي حتى
تقف بين يدي الله عز وجل ولا تطلب لأحد حاجة إلا قضاها ولا تطلب إلى الله حاجة
لك ولغيرك إلى آخر الدهر في دنياك وآخرتك إلا قضاها.... (إلى قوله:)
فعاهد الحسنُ عليّاً على ذلك ثم قال: إذا أردت إن شاء الله ذلك فقل هذا الدعاء:
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم سبحان الله في آناء الليل وأطراف النهار سبحان الله بالغدو
والآصال سبحان الله.... (إلى آخر الحديث»(51)
كل
ذلك الثواب العميم والأجر الخطير على ماذا؟ على قراءة دعاء بسيط من عدة أسطر أولها:
سبحان الله والحمد لله والله أكبر وعدد من الجمل الأخرى. ولا ننسَ بالطبع أن
أمير المؤمنين قد أخذ من حضرة الحسن أو الحسين عهداً ألا يبيحا ذلك السر لأحدٍ،
ولكن ويا للأسف! كُشف ذلك السرّ وفُتح باب هذا الكنز العجيب والعظيم فملأ الكتب،
والآن يمكن لكل فاسق وفاجر ألا يبالي بكل إنذارات القرآن ويواصل فسقه بكل طمأنينة
بال!! وأهل المعاني يعرفون أن هذا الإصرار على كتمان ذلك السر إنما كان لتحلية سوقه
وتشويق الناس إليه على قاعدة: «الإنسان حريص
على ما منع» و«كل ممنوع مرغوب» وبالتالي فعليهم أن يحرصوا على هذا الدعاء قبل أن
يطير من أيديهم فيفقدوا كل ذلك الثواب الجليل والأجر
الجزيل!!.
4
- وهناك أحاديث أخرى عديدة أيضاً على ذلك النمط في كتاب «مهج الدعوات» تشكل ملاذاً جيداً يلتجئُ إليه الباحثون عن مأمنٍ من
إنذارات القرآن، ومن جملة ذلك حديثٌ في الدعاء، أورده المجلسي في المجلد التاسع عشر
من «بحار الأنوار» نقلاً عن «مهج
الدعوات» ينصّ على مقادير هائلة من الثواب
تلقاء دعاء بسيط يضمن لمن قرأه غفران ذنوبه حتى ولو كان من بينها الزنا بأمه!!!
وإليكم الحديث من «مهج
الدعوات» (ص75 -
76):
«قال حدثنا
عبد الله قال حدثنا أبو جعفر حميد البصري قال بلغنا عن رجل من أهل نيشار يقال له
عبد الله قال حدثنا إبراهيم بن أدهم عن موسى الفراء عن محمد بن علي بن أبي طالب
عليه
السلام عن النبي (صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ) قال: من دعا بهذه
الأسماء استجاب الله عز وجل له وقال (صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ) لو دعي بهذه الأسماء
على صفائح من حديد لذاب الحديد بإذن الله تعالى وقال (صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ) والذي بعثني بالحق
نبيّاً لو أن رجلا بلغ به الجوع والعطش شدة ثم دعا بهذه الأسماء لسكن عنه الجوع
والعطش، والذي بعثني بالحق نبيّاً لو أن رجلاً دعا بهذه الأسماء على جبل بينه وبين
الموضع الذي يريده لنفذ الجبل كما يريده حتى يسلكه والذي بعثني بالحق نبيّاً لو دعا
بهذا الدعاء عند مجنون لأفاق من جنونه..... (إلى قوله): ولو أن
رجلاً دعا بهذا الدعاء أربعين ليلةً من ليالي الجمع لغفر الله عز وجل له كلَّ ذنب
بينه وبين الله تعالى ولو فجر بأمه لغفر الله له ذلك.... (إلى قوله):
وهي هذه الأسماء تقول اللهم إني أسألك يا من احتجب بشعاع نوره عن نواظر خلقه يا
من تسربل بالجلال والعظمة واشتهر بالتجبر في قدسه يا من تعالى بالجلال والكبرياء في
تفرد مجده يا من انقادت الأمور بأزمتها طوعا لأمره... (إلى آخر الدعاء الطويل)،
قيل إن سلمان الفارسي رحمه الله قال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي
ألا أعلمه الناس؟؟ قال: لا يا أبا عبد الله! يتركون الصلاة ويركبون
الفواحش ويغفر لهم ولأهل بيتهم وجيرانهم ومن في مسجدهم ولأهل مدينتهم إذا دعوا بهذا
الأسماء!!.».
أي
أن ثواب هذا الدعاء عظيم وسريع وخارق إلى درجة أنه لا يضمن غفران ذنب قارئه - الذي
من جملة ذنوبه ترك الصلاة وارتكاب الزنا حتى بأمِّه - فحسب، بل كل الناس الساكنين
في مدينة ذلك الداعي ستُغْفَرُ ذنوبُهُم أيضاً!!!
فماذا
تريد من حديث أفضل من ذلك؟ ناقلٌ مثل السيد ابن طاووس وراوٍ مثل أمير المؤمنين
(علي) وقائل مثل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ - حاشاهما ذلك -؟! وبهذا تم خير
الدنيا والآخرة!! فمن لم يعجِبْه فلينطح رأسه بالحائط!
5 - ومن
الأحاديث الأخرى المعادية للقرآن والموجودة بكثرة في الكتب المعتبرة حديثٌ آخر في
كتاب «مهج
الدعوات»
للسيد ابن طاووس - حسب ما نقله عنه المجلسي في بحار الأنوار (مجلد19/ص296) -
يقول:
«و من ذلك
دعاء جامع لمولانا ومقتدانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه
السلام رويناه بإسنادنا إلى
سعد بن عبد الله في كتابه كتاب فضل الدعاء قال حدثنا يعقوب بن زيد يرفعه قال قال
سلمان الفارسي رضي الله عنه: سمعت علي بن أبي طالب عليه
السلام يقول: قال لي رسول
الله (صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ): يا علي! لو دعا داع
بهذا الدعاء على صفائح الحديد لذابت والذي بعثني بالحق نبيّاً لو دعا داع بهذا
الدعاء على ماء جار لسكن حتى يمر عليه والذي بعثني بالحق نبيّاً أنه من بلغ به
الجوع والعطش ثم دعا بهذا الدعاء أطعمه الله وسقاه والذي بعثني بالحق نبيّاً لو أن
رجلا دعا بهذا الدعاء على جبل بينه وبين موضع يريده لانشعب الجبل حتى يسلك فيه إلى
الموضع الذي يريده...... (إلى قوله): والذي
بعثني بالحق نبيّاً لو دعا به داع أربعين ليلة من ليالي الجمع غفر الله له كل ذنب
بينه وبين الآدميين ولو كان فجر بأمه غفر الله له ذلك... (إلى قوله):
والذي بعثني بالحق أنه من نام وهو يدعو به بعث الله إليه بكل حرف منه ألف ألف
ملك من الروحانيين وجوههم أحسن من الشمس والقمر بسبعين ضعفاً يستغفرون الله ويكتبون
الحسنات ويرفعون له الدرجات. قال سلمان: فقلت له بأبي أنت وأمي يا أمير
المؤمنين! أيعطى بهذا الأسماء كل هذا؟؟ فقال: قلت لرسول الله صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ بأبي أنت وأمي يا
رسول الله! أيعطى الداعي بهذه الأسماء كل هذا؟؟ فقال: يا علي! أخبرك بأعظم من
ذلك من نام وقد ارتكب الكبائر كلها وقد دعا بهذا الدعاء فإن مات فهو عند الله شهيد
وإن مات على غير توبة يغفر الله له ولأهل بيته ولوالديه ولولده ولمؤذن مسجده
ولإمامه بعفوه ورحمته. يقول: اللهم إنك حي
لا تموت وصادق لا تكذب وقاهر لا تقهر وبديء لا تنفد وقريب
لا تبعد وقادر لا تضاد وغافر لا تظلم وصمد لا تطعم وقيوم
لا تنام ومجيب لا تسأم وجبار لا تعان وعظيم لا ترام وعالم
لا تُعَلَّم وقوي لا تضعف وحليم لا تعجل وجليل لا توصف ووفيٌّ
لا تخلِف.... (إلى آخر الدعاء).»(52).
نعم
هذه هي بعض الأدعية الموجودة في كتبنا الموثقة!! التي حررها أعلام كبار أمثال الشيخ
الصدوق والعلامة الحلي والسيد بن طاووس وأمثالهم! وهذه الأدعية تحتاج إلى استعداد
خاص للزنا بالمحارم لكي يستفيد قارئها منها بشكل جيد ويستخدمها وسيلة لغفران
ذنوبه!! وعندئذ له أن يرتكب ما يشاء من الذنوب وأن ينال شهوته من كل امرأة لأنه ليس
هناك زنا أكبر من الزنا بالأم ورغم ذلك فإن هذا الحديث الملفَّق يعتبر هذا الدعاء
سبباً لغفران حتى من يرتكب الفجور بأمه!! فأي ذنب بعد ذلك يستطيع أن يقف أمام قوَّة
الغفران الهائلة التي يملكها ذلك الدعاء ويقاومها، ولا حول ولا قوة إلا بالله؟!
أجل
هذه هي بركات بعض الأحاديث الموضوعة في كتبنا الموثقة!! وفي مثل هذه الكتب بالذات
ورد أن ثواب زيارة قبر لإمامٍ يعادل تسعين حجة مع رسول الله وأكثر من مليون حجة مع
غيره!!!
وهنا
يقول بعض مخالفينا من الذينَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ البِدَعَ ممن لا حجة لديهم
عندما نواجههم بمثل هذه الانتقادات لكتبنا وأخبارنا: ما الذي يدعوك إلى البحث
والتفتيش ونبش مثل هذه النوادر الغريبة والضعيفة التي لا يعرفها أحد، ولا يأبه بها
أحد، وتكبيرها وإظهارها أمام الأعين؟!
فأقول
مجيباً:
أولاً:
إن ما أتينا به من هذه الروايات الملفَّقة البدعية الهادمة للسنن ليس نوادر غريبة
بل يوجد مثلها الكثير وهي في متناول كل يد.
ثانياً:
وحتى لو فرضنا أنها روايات نادرة - رغم أن الكتب مملوءة بمثلها - أليس رواية واحدة
من هذا النمط كافية لزلزلة أركان الدين وهدم بنيان الشريعة؟!
عندما
ينال الإنسان، بمجرد قراءة دعاء مسند ومختصر، غفرانَ جميع ذنوبه حتى دون توبة ويملك
الجنان والحور والقصور، وعندما ينال أجرَ تسعين حجة مع رسول الله بمجرد قراءة نص
زيارة أمام قبر إمام، وعندما يطفئ غضبَ الله عليه بقطرة دمع يذرفها في مأتم
الحسين!، فهل يبقى أثرٌ لكل آيات الوعيد في القرآن الكريم التي تزيد على ألف آية؟
وهل يبقى في المجتمع الذي يؤمن بمثل تلك الروايات أي إنسانية وتدين؟! إن العيان
يغني عن الكلام! أجل إنَّ مثقالاً من السم كافٍ لتلويث نهر بأكمله وتسميم آلاف
الأشخاص وقتلهم.
والأخطر
من كل ذلك هو الألفاظ الشركية الواردة في أمثال تلك الأدعية الكاذبة ونصوص الزيارات
الملفقة مثل جملة «عين الله الناظرة ويده
الباسطة» في مخاطبة أمير المؤمنين علي
عليه
السلام!
والتي جعلت أحد آيات الله العظمى في زماننا (!) (أبو الفضل النبوي) يثبت بواسطتها
الولاية التكوينية وعلم الغيب، الذي لا يعزب عن صاحبه مثقال ذرة، للأئمة!!
ويستدلّ بجملة: «إياب الخلق إليكم وحسابهم
عليكم!» الواردة في «الزيارة الجامعة الكبيرة» على أن جميع شيعة الأئمة معفوٌ عنهم ومغفورةٌ ذنوبهم
كلُّها، وليس هذا فحسب بل إنهم يملكون الشفاعة لجميع خلق العالم!! وبهذه الجملة من
نصِّ تلك الزيارة يُقضى على عشرات آيات الوعيد والإنذار بأسوأ العذاب يوم القيامة
للمجرمين والأشرار التي تهتز لها الجبال وتتفتت من خشيتها الأكباد!!
ألا
يجب على كل عاقل أن يسأل: كيف يمكن أن يأتي رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ
وَسَلَّمَ بكل آيات الوعيد والإنذار والتخويف التي تسلب الأمن من عذاب الله من كل
مَن يقرؤها من جهة ثم في الوقت ذاته يرشد إلى قراءة دعاء من عدة أسطر أو إلى القيام
بزيارة قبر وقراءة دعاء ونص زيارة عنده لكي تغفر كل الذنوب وينال القارئ آلاف الحور
العين والقصور وآلاف آلاف الحسنات والثواب!! أليس هذا هو التناقض بعينه؟ وإن لم يكن
هذا تناقضاً فما هو الناقض إذن؟ لعلَّ تأمّل القارئ المنصف في هذه الرسالة التي
نحررها يهديه إلى حقيقة ما نقول!
كما
ذكرنا سابقاً كانت الغاية من وضع الأحاديث وتلفيق الأخبار منذ البدء تحقيق أهداف
سياسية من جهة ومعاداة الحقائق الدينية والتعاليم الإسلامية من الجهة الأخرى وهو ما
شرحناه في كتابنا «ارمغان آسمان» (أي هدية السماء)، ونضيف هنا أن الروايات الملفقة في
موضوع المجازفات العجيبة في ثواب الدعاء والزيارة والمحبة والولاية إنما وضعت -
قطعاً - لتقضي على خوف المسلمين وخشيتهم من ارتكاب المعاصي وبالتالي إضعاف أحكام
الدين وإلا فليس لتلك الأدعية ذلك الأثر ولا لتلك الزيارات ذلك الثمر وكما
ذكرنا سابقاً ليس لزيارة الأموات في شريعة حضرة خير البريات كل تلك البركات
المدَّعاة!.
هنا
قد يطرح سؤالٌ نفسه يقول إن مسألة ثواب الزيارات ليست منحصرة بفرقة الشيعة بل
يمكننا أن نجد في كتب أهل السنة أيضاً أحاديث في هذا الباب. ومن جملة ذلك ما ذكره
السمهودي في كتابه «وفاء الوفاء» حيث روى فيه سبعةَ
عشرَ حديثاً في فضل زيارة قبر النبي (صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) بالإضافة إلى ثلاثة
وثلاثين حديثاً في هذا الأمر من طرق الشيعة.
وبالطبع
بعض تلك الأحاديث مكررة من حيث المتن أو السند بحيث يمكن أن نرجعها جميعها إلى
حديثين فقط!! أوردهما البيهقي في السنن الكبرى (ج5/ص245) أحدهما في سنده مجهول
والآخر ضعيف!!.
تسعة من
الأحاديث السبعة عشر التي أوردها السمهودي يرويها «ابن عمر» ولعل هذا
الاستناد يعود إلى أنه من بين أصحاب رسول الله كان من عادة عبد الله بن عمر وحده أن
يذهب عند عودته من كل سفر إلى باب المنزل الذي فيه قبر رسول الله وقبر أبي بكر وقبر
أبيه فيلقي عليهم السلام! لذا استند واضعو الحديث إلى عمله فلفقوا عليه هذا الحديث
وأسندوه إليه!
ولو دققنا
في أسانيد تلك الروايات لوجدنا أكثر رواتها مجاهيل! وأحد العجائب في هذه الأحاديث
أننا نشاهد في أغلبها جملة: «من زارني بعد
مماتي فكأنما زارني في حياتي»! وهذه العبارة
بالذات دليل على عدم صحة تلك الأحاديث، لأن كل إنسان منطقي وعاقل، وحتى من يريد أن
يعتمد على مضمون تلك الأحاديث، يدرك أن الحياة أفضل من الممات، هذا من جهة ثم من
الجهة الأخرى إن زيارة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ وحدَها -
إذا لم تُشْفَع
بالإيمان الكامل وصلاح العمل واستقامة السيرة لا تنفع الزائر
شيئا وحدَها، فليت شعري أيُّ فضيلة نالها من الزيارة أولئك الذين زاروا رسول الله
(صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ) إبَّان حياته ولكنهم
لم يعملوا بتعاليمه ولم يستقيموا على دينه؟؟ حتى ينال مثلها من يزوره بعد موته؟
خاصة أن الحديث يبدأ بكلمة«من» التي تفيد العموم وتشمل بعمومها كلَّ من يزور قبره
أياً كانت أعماله! وبالتالي يشمل الحديث كل من زاره زمن حياته صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ من الكفار والمنافقين
وممن بدّلوا وغيروا ولم يتبعوا السابقين من المسلمين بإحسان، أي الذين لم يكن لهم
أي فضيلة في زيارته وليس هذا فحسب بل على العكس كانت تلك الزيارة حجةً عليهم وسبباً
لخسرانهم يوم القيامة، فكذلك بالنسبة للمؤمنين لا تُكْسِبُ الزيارةُ وحدَها الزائر
فضلاً بل ما يوجب السعادة والنجاة له هو إتباع النبيّ والتأسي به في أعماله
الصالحة. ولهذا نجد أن أويس القرني الذي لم ير حضرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيه
وَآلِهِ ولم يزُرْهُ في حياته قد نال - كما هو مشهور - ثناء النبي
ومديحه(53) إلى درجة
أنه صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ قال في حقِّه: «إني أجد نَفَسَ الرَّحْمنِ مِنْ جَانِبِ
اليَمَنِ»(54) في حين أن
عبد الله بن أبيّ بن سلول (زعيم المنافقين) الذي رأى رسول الله (صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ) مراراً وزاره، لم
ينله إلا اللعن مِنْ قِبَلِ اللهِ ورسولِه.
إن من
المسلَّم به إلى درجة القطع واليقين أن أياً من تلك الأحاديث سواء كانت خمسين
حديثاً أو حديثين، لم تصدر عن نبي الله صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ، وإلا لو سمع الناس
واحداً فقط من تلك الأحاديث في زمن حياته صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ لأصبح مكان دفنه منذ
أول يوم مزاراً يتردد إليه كل الصحابة! لا أن يبقى القبر في غرفة يعلوها الغبار
ويُكْتَشَف في زاوية من زواياها، بعد قرنٍ، قماشةُ رحل جمل مهترئة، وفي الزاوية
الأخرى إناء خالٍ يعلوه الغبار!.
وبصرف
النظر عن أن الإسلام - كما مرَّ - نهى في بدء أمره عن التردد إلى زيارة القبور ثم
أمر بها للعبرة وتذكر الموت، فإن كل الرواة الموجودين في أسانيد أحاديث فضائل
الزيارات هم من الغلاة والضعفاء والمجاهيل. وسنقوم فيما يتلو ببيان حال حوالي
أربعين نفر منهم كما جاء شرحها في كتب أئمة الرجال وأنت أيها القارئ أفهم القصة
المفصلة من هذا البيان المجمل!!
فهذه
الأحاديث إن لم تكن لأجل تخريب الدين فهي ليست على أي حال لتأييده ولن تكون كذلك!
وإذا تأمَّل القارئ الباحث عن الحقيقة بدقة ما أوردناه في كتابنا المختصر هذا من
ترجمة حال رجال تلك الأحاديث التي تجعل لزيارات القبور كل ذلك الثواب والأجر،
ولاحظَ وضعَ رواتَها الذين أتحفونا بها، أدرك أن هذه الأحاديث ليست مقبولةً
سنداً ولا معقولةً متناً! بل هي أكاذيب من نسج خيال حفنة من الغلاة والجهلة إن لم
يكونوا أعداء الإسلام فإنهم على أقل تقدير من أجهل الناس بحقائقه وأبعدهم عن
الاهتمام بتعاليمه الحقة ((ظُلُمَاتٌ
بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ...
وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن
نُّورٍ))
(النور/40).
إن
الحديث الشريف والسنة النبوية أصلٌ من أصول الإسلام لا غنى عنه لفهم أحكام الشريعة
الإسلامية وسنَّة النبيّ صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ
وإدراك تفصيل مجملات آيات القرآن الكريم، غير أن الأحاديث الدخيلة والمكذوبة التي
تسلَّلت من خلال الأحاديث الصحيحة أحدثت أضراراً جسيمةً بأحكام القرآن، ووجهت ضربةً
شديدة لأوامر الشريعة ونواهيها وسنشير إشارات مجملة لبعضها!
ولا
يقتصر ضرر الأحاديث الموضوعة والأكاذيب الملفَّقة على الوعود المجازفة بثواب لا حدّ
له ولا حساب على الزيارات والأدعية وحضور مآتم آل البيت وأمثالها، مما يفقد
القوى المحركة للدين والشريعة أثرها، بل يحول الإنسان - على العكس - إلى حيوان بل
ما إلى هو أسوأ بمئات المرات، أقول لا تنحصر أضرار الأحاديث الملفَّقة بهذا الأمر
فحسب، بل إن لها تأثيراتها السلبية جداً على جميع تعاليم الإسلام!
فمثلاً
الصلاة، التي تُعَدُّ عمود الدين وركن الإسلام الهامّ، أخذت في بعض الأحاديث شكلاً
مختلفاً تماماً!! والزكاة التي ما شُرِعَتْ إلا لتأمين معيشة الفقراء بل تأمين
ميزانية بلاد الإسلام، تم حصرها بواسطة بضعة روايات موضوعة وغير معقولة بتسعة
أصنافٍ هي الأنعام الثلاثة الإبل والبقر والغنم بشرط أن تكون سائمة غير معلوفة،
وبالذهب والفضة المسكوكَيْن، وبالغلّات الأربعة البر والشعير والتمر والزبيب بعد
توفر شروط خاصة فيها، الأمر الذي أفقد الزكاة في هذا الزمن كل أهمية وأصبحت بلا أثر
تقريباً!. وكذلك روّجت تلك الأحاديث الدخيلة في أوساط الشيعة لقضية «الخمس» مع
أنه ليس لمثل هذا الحكم أثرٌ عن الله ورسوله ولا في عمل مسلمي صدر الإسلام!
(55).
كذلك
يتم - استناداً لمجموعة من الأحاديث المخْتَلَقَة الموضوعة - صرفُ أموالٍ وفيرةٍ
واستهلاكُ أملاكٍ كثيرةٍ على بناء الأضرحة المفضضة والقباب المطلية بالذهب على قبور
الأئمة، وحسب إقرار محاسبي الأوقاف في بلادنا فإن ربع أراضي وأملاك إيران مكرسةٌ
لتعمير وتزيين تلك المقابر والمشاهد التي صارت أشبه بقصور السلاطين الجبابرة
وفراعنة الزمان، حتى أصبحنا نرى في كل مدينة وقرية صغيرة قبوراً وأضرحةً فخمةً ذات
أبّهة وجلال وأوقافاً كثيرةً تابعةً لها.
وفرضوا
بقوة تلك الأحاديث عدداً من الكسالى والطفيلين تحت اسم السادات والأشراف والعلماء
على رقاب المسلمين إلى الحد الذي أصبح فيه لكلِّ فرد معمَّمٍٍ قليل الاطلاع في
زماننا - باسم الولاية - الحق في التصرُّف بشؤون المسلمين بل بجميع أقوام الدنيا!
حتى أصبحنا نخشى أن يصبح اسم الإسلام - لا سمح الله - مكروهاً ومنفوراً في أنحاء
العالم!
إن
هذه الأضرار المؤذية للأحاديث الموضوعة ومئات مثلها تُضاف إلى أضرار إيجاد الغلو
والإفراط بحق الأئمة عليهم السلام، رغم أنهم كانوا من أكثر عباد الله تواضعاً،
فجعلتهم بعض الروايات الكاذبة سادة عالم الوجود والمتصرفين في الكون وأنداداً
وشركاء لرب العالمين!! ((تَعَالَى
اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)).
وغنِيٌّ
عن الذكر أننا لا ننكر أصل الحديث ولا نعارض أصل السنة بل
على العكس - كما قلنا في بداية الموضوع - نعتبر الحديث ضرورياً جداً لفهم أوامر
ونواهي الشريعة وتفصيل مجملات القرآن، بيد أن الحديث الذي يفصِّل مجملات القرآن
ويبين أحكام الحلال والحرام هو ذاك الذي يؤيِّدُ القرآنَ ويوافقه - كما أرْشَدَنَا
إلى ذلك الأئمة عليهم السلام - لا الأحاديث التي تنسخ القرآن وتنقض
تعاليمه!!.
فمثلاً الأحاديث التي تعطي الثواب العظيم
الذي لا يُصَدَّق لمن يقوم بزيارة القبور تخالف القرآن إما صراحةً أو كنايةً لأن
القرآن الذي يقول ((أَلْـهَاكُمُ
التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْـمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ
تَعْلَمُونَ)) (التكاثر/1 - 3)
يعتبر زيارة المقابر لأجل التكاثر والتفاخر أمراً مكروهاً بل ممنوعاً، من هنا نهى
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ في بداية دعوته عن
زيارة القبور - كما مرَّ - ثم أمر بها فيما بعد بهدف العبرة وتذكّر الآخرة أو
تذكُّر الموت، مما يعني أن الزيارات التي تتم حالياً ليست مستثناة من ذلك النهي
الابتدائي لأن تلك الأضرحة الجليلة والمشاهد الفاخرة التي تفوق في زخرفتها بلاط
الفراعنة والأكاسرة لا تذكر بالموت ولا بالآخرة بل تضاعف حب الدنيا وزخارفها في قلب
الإنسان! فالأغنياء والأثرياء الذين يشاهدون تلك القباب والمآذن المذهَّبَة
والحيطان المزخرفة والثريات الضخمة والفخمة والزينات الباذخة والأبنية المرتفعة
والسجاد الفاخر يسعون إلى تقليد تلك الزينات في بيوتهم وقصورهم فيأتي أولادهم
وأحفادهم ويتفاخرون بها ويتبع ذلك من المفاسد ما يتبع!.
هذا علاوة
على أن تلك الوعود الموجبة للغرور بإعطاء درجات خيالية من الثواب على الزيارة أو
على قراءة دعاء أو على البكاء أو التباكي في مآتم الأئمة التي تبلغ أحياناً منزلةً
لا يصلها مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ!! من شأنها أن تُضْعِفَ تأثير آيات
الوعيد والبشارة والإنذار في القرآن الكريم أكثر مما تفعله جنود أبو جهل وأبو
سفيان!.
ويعلم الله
السميع العليم - وكفى بالله شهيداً - أن كاتب هذه السطور لا هدف له من تأليف هذه
الكتب والرسائل سوى إزالة غبار الأوهام والأكاذيب عن الوجه المنوَّر لدين الإسلام،
وقد صرفتُ لأجل هذه الغاية السامية أيَّام عمري وتحملتُ في هذا السبيل الآلام
والتُّهَم إلى الحد الذي تعرَّضْتُ فيه لمحاولة القتل، وأنا على يقين أنه حتى بعد
موتي سيلعنني كثير من خاصة الناس وعامتهم ويسبونني ليل نهار! ولكنني لمّا كنت أسعى
إلى هذا الهدف إرضاءً لله تعالى العليم ذي الجلال والإكرام معتبراً هذا العمل
جهاداً لنصرة الحق وإعلاء راية الإسلام فإنني أتحمل كل مشقة ومصيبة واحتسب أجرها
عند الله وأعتبره أفضل من أجر المجاهدين بسيوفهم في سبيل
الله!
وهنا لا بد
من ذكر نقطة وهي أن بعض مؤيدي الزيارات عندما تعييهم الحجج يقولون: لِنَفْرِضَ أن
زيارة قبور الأولياء والأئمَّة ليس لها كلُّ ذلك الثواب فعلاً، ولم يأمر بها
الشارع، إلا أن تلك المشاهد والأضرحة ليست بأقل أهمية من نصب الجندي المجهول الذي
يوجد في كل بلدان العالم المتمدِّنة وينال احترام الناس ويزوره الوافدون والقادمون
والكبار والرؤساء!!.
فأقول: رغم
أن هناك تفاوتاً وتضاداً واضحاً بين الأمرين إلا أننا نقول مع ذلك أننا لا ننكر
أصل زيارة القبور بل نرى أن لها فوائد وفضائل أكثر من زيارة الجندي المجهول
ولكننا نرى أنها يجب أن تتم ضمن الشروط والضوابط التالية:
أولاً - يجب
إزالة كل تلك الأحاديث الملفَّقة والروايات الموضوعة حول الزيارات والمجازفات
والمبالغات في أجرها وثوابها، فلا ننسبها إلى الشريعة، ولا نرتب أثراً عليها،
فلا نعظِّم القبور ذلك التعظيم، ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن به الله، ولا
نبذر الأموال في أعمال لا طائل تحتها.
ثانياً - أن
نكتفي بزيارة واحد أو اثنين من قبور أئمة الدين التي اشتهر أصحابها بالفضائل
والمناقب والمآثر في حياتهم، لا أن نوجد في صقع وبلدة مزاراً
وضريحاً.
ثالثاً - أن
نُجَنِّبَ القبورَ كلَّ تلك الزخارف والزينات وصرف الأموال ونطهرها من الممارسات
الشركية مثل تقديم النذور وطلب الحوائج، حتى لا نقع في ورطة الشرك والعياذ
بالله.
رابعاً - والأهم
من كل ما سبق أن نعقد اجتماعات في كل سنة أو في المناسبات الخاصة، يجتمع فيها الناس
لسماع الخطب التي تذكر بمناقب الأئمة العظام - عليهم السلام - وتضحياتهم الموثَّقَة
تاريخيَاً، وذلك لتشجيع الناس وحملهم على التأسِّي بهم في التضحية في سبيل إعلاء
راية الحق والدين.
ومن
البديهي أننا لو قمنا بالأمور المذكورة فإننا سنجني فوائد ونتائج إيجابية أكثر مما
يذكره دعاة الزيارات البدعية. وهذا أمرٌ قمنا به قبل ثلاثين عاماً ونيّف في كربلاء
في الصحن الحسيني المطهر، حيث اقترحنا تلك الأمور التي أجملناها في رسالتنا
المختصرة هذه.
إلى هنا
ننتهي من هذه الأبحاث التمهيدية وننتقل إلى متن الكتاب الذي ألفته قبل بضع سنين
رداً على كتاب «اُمرايِ
هستي»
(أي أمراء الكون) الذي
ألفه أحد الآيات العظام!! في «قُم» هذا رغم ما واجهناه من صعوبات ومشاكل وعراقيل في نشر
ذلك الكتاب والتي أدت إلى تأخير نشر بحثين منه هما بحث الولاية وبحث الزيارة فإليكم
بحث الزيارة نضعه أمام طلاب الحق وما توفيقي إلا بالله.
+
+
+
لا
شك إنه لما اتصل المسلمون بأتباع الملل والأديان المخالفة من اليهود والنصارى
والمجوس والبوذيين والأقباط، ورأوا في ديارهم مقابر قديسيهم أو ملوكهم وأمرائهم
كقبر «كورش»
و«داريوش»
وأمثالهما في إيران مثلاً، تأثروا بهذا الأمر وبدؤوا ببناء المشاهد والمزارات على
قبور أئمتهم وصالحيهم منذ العهد العباسي وبدأت قوافل الزوار تشد رحالها من الشرق
والغرب لزيارة تلك المزارات والمشاهد التي أقيمت على قبور بعض الأئمة الصالحين.
ويوماً بعد يوم كانت تزداد زينات وفخامة تلك المشاهد والأضرحة وتبنى عليها القباب
الطينية ثم الآجرية ثم المطلية بالفضة ثم الذهبية! وتكاثرت القباب في كل حدب وصوب
وظهر الرواة الوضاعون في الشرق والغرب وشرعوا في وضع الأخبار وفي الواقع شرعوا في
إضعاف أحكام الشرع الأنور التي فيها حياة الناس وتحقيق مصالحهم الدنيوية والأخروية،
وامتلأت كتب الحديث والأخبار بالوعود المجازفة المبالغ بها على ثواب الزيارة إلى
الحد الذي أصبحت فيه زيارة قبر من القبور تعادل عدداً من الحجات والعمرات وأخيراً
أصبحت تعادل مئة ألف حجة مع رسول الله (صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ)،
ومئة ألف عمرة بل حتى مئة ألف غزوة مع النبي أو مع إمام عادل... بل أكثر من
ذلك!!
وأياً
كانت علة وضع تلك الأحاديث واختلاقها فإن كل عاقل حصيفٍ يمكنه أن يستنتج من حال
معظم رواة تلك الروايات الملفقة والأكاذيب الموضوعة الذين هم جميعاً من الغلاة
والمفسدين والفسقة الكذابين أن غايتهم وهدفهم من وضع تلك الروايات ليس سوى إضعاف
بنيان الشريعة وتمييع أحكامها والاستهزاء بكتاب الله تعالى، ولكي تزول من نفوس
المصدّقين بتلك الروايات المُختَلَقَة روح الخوف والخشية من الوقوع في المعاصي أو
الخوف من التقصير في العبادات، بل يتعاظم بأنفسهم الغرور بأن أداء تلك الزيارات أو
قراءة بعض تلك الأدعية عند القبور سيراكم لصالحهم مقداراً هائلاً من الحسنات
والطاعات تكفيهم يوم القيامة حتى ولو خاضوا في بعض المعاصي وارتكبوا الفسق والفجور
وأضاعوا أوقاتهم وأوقات جيلهم فيما لا طائل تحته، وبدلاً من الإقبال نحو المبرّات
والخيرات وبذل المال في وجوه الإحسان والجهاد بالنفس والمال في سبيل الله احتساباً
للأجر عند الله يوم الميعاد، خاصة أن الجهاد في سبيل الله وسيلة حاسمة للحفاظ على
حياض بلاد الإسلام وتأمين رقيها وتقدمها وعظمة الإسلام، بدلاً من ذلك يتجه الناس
إلى أعمال لا فائدة منها وإن لم تأتِهم بالمذلة والنكبات لا جرم أنها لا تأتيهم
بالعزة والشوكة، ولا تصنع لهم تَقَدُّماً ولا
رُقِيَّاً.
ولعل
الغرض الآخر من وضع وتلفيق تلك الروايات هو ما يقوله بعض مخالفي الشيعة من أن بعض
سلاطين الشيعة وملوكهم أرادوا من خلال تلك الروايات التخفيف من أهمية حج بيت الله،
تلك العبادة التي تُعَدُّ أفضل وأهم وسيلة لتلاقي المسلمين واتحادهم وترابطهم، وصرف
الناس عنها حتى المقدور نحو الحج إلى المشاهد والمزارات!
وأياً
كانت أغراض وأهداف حركة وضع تلك الروايات فإنها أدَّت دورها للأسف وحققت غرضها على
أحسن وجه حتى أصبح أكبر أمل وأهم عمل للمسلمين المنتسبين للتشيع لأئمة آل البيت في
يومنا هو أن يحالفهم التوفيق لزيارة قبر إمام من أئمة آل البيت - عليهم السلام - أو
المشاركة في مأتمه ومجلس عزائه!
ومن
الواضح تماماً أن مثل هذه الأعمال لا تفيد هذا الشعب ولا ينتج عنها سوى الغرور
والجهل والفقر! ولم تزد على معارف وعقائد هذه الطائفة سوى عبارات كفرية ومغالية في
حق الأئمة مثل: «يا عين الله الناظرة ويده
الباسطة!» أو جملة «وإياب الخلق إليكم وحسابهم عليكم!» (56)
وجعل الناس يرددونها ليلاً نهاراً في المشاهد المتبرَّكَة!.
وسيرى
القرّاء الكرام أن معظم بل كل تلك الأخبار والروايات التي تعطي كل ذلك الثواب وتشجع
على الزيارات إنما وضعها ولفَّقها رواةٌ مغالون وكذابون وأعداء لدنيا المسلمين
وآخرتهم. ولكن الأمر المحير هو قيام كثيرٍ من جامعي كتب الحديث الذين هم أنفسهم من
أئمة علم الرجال، بإدراج تلك الروايات في كتبهم؟! فمثلاً الشيخ الطوسي -
عليه الرحمة - الذي ألف نفسه كتابين في علم الرجال وبيّن حال كثير من رواة تلك
الأحاديث فذكرهم بعبارات: فلانٌ كان غالياً وكذاباً وضعيفاً، رغم ذلك يروي في كتابه
«تهذيب الأحكام» كثيراً من أحاديث الزيارة عن عين أولئك الغلاة
الكذابين أنفسهم!
أليس
مثلهم في ذلك مثل الطبيب الذي يوصي باتخاذ إجراءات وقائية للحيلولة دون ابتلاء
الناس بالأمراض ولكنه يقوم هو نفسه بنشر جراثيم هذه الأمراض!!(57).نحن
لا نشك أن أولئك العلماء الأفاضل أمثال الشيخ الطوسي وغيره لم يكن لهم قصدٌ سوى
خدمة الشريعة، ولكن على أي حال يجب ألا نغفل عن ذلك الخطأ والغفلة التي وقعوا
فيها.
لقد
كتبنا هذه المباحث التمهيدية حول الزيارة قربةً إلى الله وطلباً لمرضاته واستقبلنا
كل ما نزل بنا من خسائر مادية وأذى معنوي في هذا السبيل محتسبين ذلك جهاداً في سبيل
الله، نريد أن نقدِّم هذه الأبحاث لطلاب الحق والباحثين عن الحقيقة كي يتأملوها
بعقل نيِّر منفتح، وعين بصيرة، فإذا قبلها عقلهم ووجدانهم فأملي منهم أن يسعوا في
نشرها وإشاعتها عسى أن ننقذ طلاب الحق من هذه الخرافات ونعود بهم إلى طريق الإسلام
الصحيح الذي فيه سعادة الدنيا والآخرة، آملين أن يكرمنا الله بثواب هداية الخلق وأن
نكون بذلك قد أدينا جزءاً بسيطاً من الدَّيْن الواجب علينا تجاه تلك الشريعة
العظيمة التي أكرمنا الله بها والتي أمرنا - إضافة إلى إتباعها - أن نحافظ عليها
ونحرسها قدر طاقتنا ((إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ
مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ
أُنِيبُ)).
وفيما
يلي سنذكر قائمةً من رواة أحاديث الزيارة الذين ذكرت أحاديثهم في كتب الشيعة
المشهورة مثل («الكافي» و«كامل
الزيارات» و«من لا يحضره الفقيه» و«تهذيب
الأحكام») مرتَّبةً على ترتيب حروف الهجاء
ما عدا أفراد نوادر ليس في أحاديثهم مخالفة لأسس الدين أو لم يوجد يقين بصدور تلك
الأحاديث عنهم:
1-
أحمد
بن هلال |
2-
بكر
بن صالح |
3-
جعفر
بن محمد بن مالك |
4-
الحسن
بن عبد الله القمي |
5-
الحسن
بن علي بن أبي حمزة |
6-
الحسن
بن علي بن أبي عثمان |
7-
الحسن
بن علي بن زكريا |
8-
الحسين
بن عبد الله |
9-
الحسين
بن مختار |
10-
الحسين
بن يزيد النخعي |
11-
الخيبرى
بن علي الطحان |
12-
داوود
بن كثير الرقي |
13-
سلمة
بن الخطاب |
14-
سهل
بن زياد |
15-
سيف
بن عميرة |
16-
صالح
بن عقبة |
17-
عبد
الرحمن بن كثير |
18-
عبد
الله بن عبد الرحمن الأصم |
19-
عبد
الله بن القاسم الحضرمي |
20-
عبد
الله بن ميمون القداح |
21-
عثمان
بن عيسى |
22-
علي
بن حسان |
23-
علي
بن فضال |
24-
عمرو
بن ثابت |
25-
قاسم
بن يحيى |
26-
محمد
بن أرومة |
27-
محمد
بن اسلم |
28-
محمد
بن جمهور |
29-
محمد
بن الحسن بن شمعون |
30-
محمد
بن سليمان الديلمي |
31-
محمد
بن سنان |
32-
محمد
بن صدقة |
33- محمد
بن عيسى بن عبيد اليقطيني |
34-
محمد
بن فضيل |
35-
محمد
بن موسى الهمذاني |
36-
المعلى
بن محمد البصري |
37-
المفضل
بن صالح |
38-
المفضل
بن عمر |
39-
موسى
بن سعدان |
40-
يونس
بن ظبيان |
41-
موسى
بن عمران النخعي |
42-
سليمان
بن عمرو النخعي* |
43-
صالح
النيلي* |
44-
المنذر
بن جارود* |
بعض
هؤلاء الرواة(58)
روى حديثاً واحداً في باب الزيارات وثوابها، في حين يصل عدد روايات بعضهم إلى عشرين
حديثاً، وبعضهم روى أكثر من ذلك، وروايتهم كانت إمّا عن إمامٍ من أئمة أهل البيت -
سلام الله عليهم - مباشرةً أي دون واسطة، أو عنهم بواسطة.
وفيما
يلي نذكر حالهم واحداً واحداً حسب الترتيب الذي أوردناه، من كتب رجال الشيعة
الموثقة أعني كتب: «النجاشي» و«الشيخ
الطوسي» و«الغضائري»
و«العلامة الحلي» عليهم الرحمة، ونضعها أمام القراء الطالبين للحقيقة
مع ذكر بعض أحاديثهم التي رووها بشأن الزيارة وأنواع الثواب العظيم الذي جعلوه لها،
حتى يرى كل منصف هل يمكن لمن يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر أن يثق بمثل هذه
الأحاديث التي يرويها أمثال أولئك الرواة أو يستند إليها للقيام بعمل لم يأت عليه
نصٌّ في كتاب الله ولا ذكرٌ في سنة رسول الله؟! وهل يمكن أن يثبت من خلال بعض
العبارات والفقرات الكفرية التي وردت فيها عقيدةً خطيرةً كالولاية التكوينية وتصرّف
الأئمّة في كل الموجودات، ويجعل بذلك من الأمة التي كانت من أرقى ملل العالم في
فكرها وعقيدتها من أكثر أمم العالم انحطاطاً وذلاً في دينها ودنياها ببركة تلك
الروايات المشؤومة؟!.
فلنشرع
إذن ببيان حال أولـئك الرواة:
أول
رجال أحاديث الزيارات حسب ترتيب حروف الهجاء هو:
1
- أحمد بن هلال العبرتائي: وقد مر ذكره في متن الكتاب لذا سنكتفي بما ذكرناه
ثمة (راجع الصفحة 147من هذا الكتاب).
2
- بكر بن صالح الرازي: وهذا أيضاً مَرَّ ذكره في متن الكتاب فنحيل القارئ
إلى ما ذكرناه ثمَّة (راجع الصفحة 118 - 119 من هذا الكتاب).
3
- جعفر بن محمد بن مالك:
أ)
قال ابن الغضائري عنه كما جاء في «مجمع الرجال» للقهپائي(59)
(ج2/ص42): «قال في «مجمع الرجال»:
«(غض): جعفر بن محمد بن مالك بن عيسى بن
شابور، كذاب، متروك الحديث جملة، وكان في مذهبه ارتفاع ويروي عن الضعفاء والمجاهيل
وكل عيوب الضعفاء مجتمعةٌ فيه!.».
ب
- ووُصِفَ في رجال النجاشي (ص94) بهذه الأوصاف السيئة ذاتها وزاد عليها قوله: «وسمعت من قال: كان أيضاً فاسد المذهب
والرواية».
ج
- وأكد العلامة الحلي في رجاله (ص210) ما ذكره النجاشي والغضائري عنه وختم ذلك
بقوله: «عندي في حديثه توقُّف ولا أعمل
بروايته».
4
- الحسن بن عبد الله القميّ: هذا الراوي - حسب ما جاء في تنقيح المقال
(ج1/ص288) وخلاصة العلامة الحليّ (ص212) - هو الحسن بن عبيد الله، وهو مُتَّهَمٌ
بالغلوِّ.
5
- الحسن بن علي بن أبي حمزة البطائني:
أ)
في رجال النجاشي (ص28): «إنه كان من وجوه
الواقفة، لا أستحلُّ روايته».
ب)
وفي مجمع الرجال للقهپائي (ج2/ص121): «محمد
بن مسعود قال: سألت علي بن الحسن الفضّال عن الحسن بن علي بن أبي حمزة البطائني؟
فقال: كذَّابٌ ملعونٌ».
ج)
وقال عنه المرحوم الغضائري: «الحسن بن علي بن
أبي حمزة البطائني مولى الأنصار أبو محمد واقفيّ بن واقفيّ ضعيف في نفسه».
د
- وذكر التفرشي(60)
في «نقد الرجال» (ص92) ما ذكره السابقون بشأنه وأضاف: «حكى لي أبو الحسن حمدويه ابن نصير عن بعض أشياخه
أنه قال: الحسن بن علي بن أبي حمزة رجلُ سوءٍ».
والآن اقرؤوا أحاديث هذا الكذّاب الملعون
كما جاءت في كتاب «كامل الزيارات»(61)
لـ «ابن قولويه» (ص119) حيث جاء:
«وحدثني
أبي ومحمد بن الحسن وعلي بن الحسين عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد بن عيسى عن
علي بن الحكم عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير عن أبي عبد الله
عليه
السلام قال:
وَكَلَ اللهُ تبارك وتعالى بالحسين عليه
السلام سبعين
ألف ملك يصلون عليه كل يوم شعثاً غبراً ويدعون لمن زاره ويقولون يا رب! هؤلاء زوار
الحسين عليه
السلام افعل
بهم وافعل بهم [كذا وكذا]».
ولا
يعلم أحدٌ لماذا وكّل اللهُ الحكيمُ أولئك الملائكة بتلك الصورة أي شُعثاً غُبراً
وما فائدة كونهم كذلك؟! وهل هناك عيبٌ في أن يكون الإنسان منظَّفاً مرتَّباً؟! ألا
يمكن للإنسان إذا كان شعره مسرحاً ولباسه نظيفاً مرتباً أن يشارك في المأتم ومراسم
العزاء؟!
وجاء
في الصفحة 153 من «كامل الزيارات»:
«حدثني
أبي رحمه الله عن سعد بن عبد الله عن أبي عبد الله الجاموراني الرازي عن الحسن
بن علي بن أبي حمزة عن الحسن بن محمد بن عبد الكريم عن المفضل بن عمر عن جابر
الجعفي قال: قال أبو عبد الله عليه
السلام في
حديث طويل: فإذا انقلبت من عند قبر الحسين عليه
السلام ناداك
مناد لو سمعت مقالته لأقمت عمرك عند قبر الحسين عليه
السلام وهو
يقول: طوبى لك أيها العبد! قد غنمت وسلمت، قد غفر لك ما سلف فاستأنف العمل!... وذكر
الحديث بطوله».
أجل
مثل هذه الأحاديث تشجّع المغرورين على التجرؤ على معصية الله وارتكاب كل منكر أملاً
بثواب الزيارة هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى يدفع أولئك الزوّار لإنفاق ملايين
التومانات من عرق جبينهم كل عام على السفر لهذه الزيارات، ونتيجة ذلك هي هذا الوضع
الذي نلاحظه اليوم.
6
- الحسن بن علي بن أبي عثمان:
أ)
قال الشيخ الطوسيّ رحمه الله في كتاب «رجال
الطوسيّ» (ص413 و420): «الحسن بن علي بن أبي عثمان، السجادة،
غالي».
ب)
وفي مجمع الرجال للقهپائي (ج2/ص124): «الحسن
بن علي بن أبي عثمان أبو محمد الملقب بسجادة في عداد القميين ضعيف وفي مذهبه
ارتفاع».
ج)
في رجال النجاشي (ص48): «الحسن بن علي بن أبي
عثمان أبو محمد الملقب بسجادة أبو محمد كوفي ضعّفه أصحابنا».
د)
وجاء في رجال الكشيّ (ص478، طبع كربلاء): «قال أبو عمرو... السجادة لعنه الله ولعنه اللاعنون
والملائكة أجمعون».
هذا
الشقي الملعون روى مع صاحبه الآخر «الحسين بن
عبد الله» - الذي سنبين حاله التعيس عن قريب
إن شاء الله - روايةً أوردها «ابن
قالويه» في الصفحة 132 من كتابه «كامل الزيارات» تحت عنوان: (الباب التاسع والأربعون ثواب من زار
الحسين عليه
السلام راكباً
أو ماشياً ومناجاة الله لزائره!)
هي التالية:
«حدثني
أبي وجماعة مشايخي عن سعد بن عبد الله ومحمد بن يحيى وعبد الله بن جعفر الحميري
وأحمد بن إدريس جميعاً عن الحسين بن عبيد الله عن الحسن بن علي بن أبي عثمان
عن عبد الجبار النهاوندي عن أبي سعيد عن الحسين بن ثوير بن أبي فاختة قال قال أبو
عبد الله عليه
السلام:
يا حسين! من خرج من منزله يريد زيارة قبر الحسين بن علي إن كان ماشياً كتب الله
له بكل خطوة حسنةً ومحا عنه سيئةً حتى إذا صار في الحائر كتبه الله من المصلحين
المنتجبين [المفلحين المنجحين] حتى إذا قضى مناسكه كتبه الله من الفائزين حتى إذا
أراد الانصراف أتاه ملكٌ فقال إن رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ
وَسَلَّمَ) يقرئك السلام ويقول لك استأنف العمل فقد غُفِرَ لك ما
مضى!».
والعجيب
أن راوٍ على مثل تلك الدرجة من سوء السمعة في كتب الرجال والذي لابدَّ من ردِّ
أحاديثه بسبب عقيدته الفاسدة، خاصَّةً مثل هذه الأحاديث التي تطفح منها المغالاة في
ترتيب الأجر والثواب على الزيارة، ومع ذلك نجد أن علماء الشرع لا يردُّون
أحاديثه بل يروونها في كتبهم!! ألا تقتل مثل هذه الروايات روح الخوف والخشية لدى
الأفراد وتجرئهم على المعاصي وتضعف فيهم روح العمل بالفرائض والأحكام وتجعلهم
يغترون بأنهم بقيامهم بزيارة واحدة إلى قبر الإمام ستُسَجَّلُ في دفتر حسناتهم آلاف
الحسنات وتمحى عنهم آلاف السيئات، ويُقال لهم قد غُفِرَ لكم كل ما سبق فاستأنفوا
العمل!! ألن يَسْعَوْا عندئذٍ إلى القيام بتلك الزيارة مهما كلفهم الأمر ليرتاحوا
بذلك من قيود سائر الأحكام؟!.
7
- الحسن بن علي بن زكريا أو الحسين بن علي بن زكريا (حسب اختلاف النسخ):
أ)
قال عنه الغضائري كما جاء في كتاب «مجمع الرجال» للقهپائي (ج2/ص190): «الحسين بن علي بن زكريا بن صالح زُفر العدوي أبو
سعيد ضعيفٌ جداً كذّابٌ»
ب)
ووصفه العلامة الحليّ في رجاله (ص217) بهذه الصفات ذاتها.
8
- الحسين بن عبد الله: مَرَّ شَرْحُ حاله خلال بيان حال «الحسن بن علي بن أبي عثمان» وقد وصفته كتب الرجال بما
يلي:
أ)
في رجال العلامة الحلي (ص216): «الحسين بن
عبد الله السعدي أبو عبد الله بن عبيد الله بن سهل ممن طعنوا عليه ورُمِي
بالغلو».
ب)
وفي رجال الكشيّ (ص432): «إن الحسين بن عبد
الله القميّ أُخْرِجَ من قُم في وقت كانوا يُخرِجون من اتهموه بالغلو».
9
- الحسين بن مختار: اعتبره في تنقيح المقال (ج1/ص343) نقلاً عن الشيخ الطوسي
عليه الرحمة واقفياً كما أورده العلامة الحلي في القسم الثاني من رجاله المخصص
للضعفاء واعتبره واقفياً، واعتبره الشيخ البهائي أيضاً في كتابه «الوجيزة» من
الضعفاء.
10
- الحسين بن يزيد النخعي: قال
القهپائي في مجمع الرجال نقلاً عن النجاشي عليه الرحمة: «قال قوم من القميين إنه غلا في آخر عمره»!
11
- الخيبري بن علي الطحان:
نقل
القهپائي في مجمع الرجال (ج2/ص275) عن الغضائري رضي الله عنه قوله: «خيبري بن علي بن الطحان ضعيف الحديث غال المذهب
كان يصحب يونس بن الظبيان ويكثر الروايات عنه وله كتاب عن أبي عبد الله عليه
السلام لا يُلْتَفَتُ إلى حديثه».
كما
وصفه النجاشي في كتابه (ص118) بالأوصاف ذاتها قائلاً إن في مذهبه ارتفاعاً
وغلواً.
لفَّق
هذا الشقي الغالي في موضوع الزيارة حديثاً كلُّه كَذِبٌ وغلوٌّ أورده ابن
قولويه في «كامل الزيارات» (ص147) جاء فيه:
«وحدَّثني
أبي رحمه الله عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد بن إسماعيل عن
الخيبري عن الحسين بن محمد القمي عن أبي الحسن الرضا عليه
السلام قال:
من زار قبر أبي عبد الله عليه
السلام بشط
الفرات كان كمن زار الله فوق [في] عرشه!»
أجل
الحسين مثل الله - والعياذ بالله - والفرات مثل العرش(62)!
والأعجب من ذلك أن الشيخ الطوسي (عليه الرحمة) روى الحديث ذاته في كتابه «تهذيب الأحكام» (ج6/ص46) بالسند ذاته!
12
- داوود بن كثير الرقيّ: بينا شرح حاله في متن الكتاب فليراجع
ثمة(63).
13
- سلمة بن الخطاب: رُوِيَت عن هذا الراوي في كتاب «كامل الزيارات» و«تهذيب
الأحكام» أكثر من عشرين روايةٍ، وفيما يلي
ترجمته:
أ
- الغضائري في مجمع الرجال (ص152): «سلمة بن
الخطاب البراوستاني أبو محمد من سواد الري، ضعيف».
ب
- رجال النجاشي (ص142): «سلمة بن الخطاب أبو
الفضل البراوستاني الأيرقاني قرية من سواد الري كان ضعيفاً في حديثه».
ج
- واعتبره العلامة في رجاله (ص227) ضعيفاً وهكذا وصفته كتب الرجال الموثقة
الأخرى.
14
- سهل بن زياد الآدمي: هذا أيضاً جاءت ترجمته في متن الكتاب فراجعها
ثمة(64)
15
- سيف بن عميرة: طبقاً لما ذكره مؤلف «كشف الرموز»
وبناءً على نقل «تنقيح المقال»، هذا الشخص مطعون وملعون.
16
- صالح بن عقبة:
جاءت
عن هذا الراوي الشقي في موضوع الزيارة أحاديث عديدة في كتابي «التهذيب»
و«كامل الزيارات» وفيما يلي بيان حاله:
أ)
قال عنه الغضائري كما جاء في مجمع الرجال (ج3/ص206): «صالح بن عقبة بن قيس بن سمعان ريحة مولى رسول
الله، روى عن أبي عبد الله عليه
السلام،
غالٍ، كذاب، لا يُلتَفَت إليه!».
ب)
وأورده العلامة الحلي في القسم الثاني من رجاله المخصص للضعفاء (ص230) وذكر عنه
العبارات السابقة ذاتها.
ج)
وجاء في تنقيح المقال (ج2/ص93) نقلاً عن ابن داوود العبارات السابقة فقال: «ونُسِب إلى ابن الغضائري أنه قال: ليس حديثه بشيء،
غالٍ، كذاب، كثير المناكير».
وإليكم
إحدى تحف هذا الراوي كما جاءت في «كامل
الزيارات» (ص104):
«حدثنا أبو
العباس القرشي عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن محمد بن إسماعيل عن صالح بن
عقبة عن أبي هارون المكفوف قال قال أبو عبد الله عليه
السلام: يا أبا هارون!
أنشدني في الحسين عليه
السلام، قال: فأنشدته فبكى
فقال أنشدني كما تنشدون يعني بالرقة قال فأنشدته: امرر على جدث الحسين فقل لأعظمه
الزكية...
قال فبكى
ثم قال زدني قال فأنشدته القصيدة الأخرى قال فبكى، وسمعت البكاء من خلف الستر، قال:
فلما فرغت قال لي: يا أبا هارون! من أنشد في الحسين عليه
السلام شعراً فبكى وأبكى
عشراً كتبت له الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى خمسةً كتبت له الجنة،
ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى واحداً كتبت لهما الجنة، ومن ذكر الحسين
عليه
السلام عنده فخرج من عينه
[عينيه] من الدموع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على الله ولم يرض له بدون
الجنة.»
وأبو
هارون المشار إليه في الحديث هو ذات أبو هارون الذي قيل عنه في فصل الكِنى من كتاب
«تلقيح المقال»: «رُوي فيه
طعنٌ عظيمٌ!»، وقال مثله العلامة الحلي في
الخلاصة (ص267).
أجل
هذا نموذجٌ من الأساطير التي يستلهمها شياطين الإنس من شياطين الجن فيوحون بها إلى
عامة الناس ليلاً ونهاراً، وتكون نتيجة ذلك تربيةُ أشخاصٍ لا يأبهون لحساب أو
كتاب، ويفقدون شعورهم وإنسانيتهم ويجترئون على الفساد والمعاصي بنحوٍ يستحيل فيه
بعد ذلك إصلاحهم، لأنهم فسدوا من نفس الطريق والجهة التي كان ينبغي أن يصلحوا بها،
أي من طريق الدِّين الذي إن فسد لا يوجد بديل له لإصلاحه!.
ولقد
رُوِيَتْ عن هذا الغالي الكذَّاب كثيرِ المناكيرِ الذي لا نظير لأحاديثه في الغلوّ،
كثيرٌ من الروايات من كل نوعٍ في كتب الحديث. ومن ذلك هذا الحديث الآخر الذي جاء في
«كامل الزيارات» (ص169 - 170):
«حدثني محمد
بن جعفر القرشي الرزاز الكوفي عن خاله محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن محمد بن
إسماعيل عن صالح بن عقبة عن بشير الدهان قال: قلت لأبي عبد الله
عليه
السلام ربما فاتني الحج فأعرف
(أي أكون يوم عرفة) عند قبر الحسين عليه
السلام فقال: أحسنت يا
بشير! أيما مؤمن أتى قبر الحسين عليه
السلام عارفاً بحقه في غير
يوم عيد كتب الله له عشرين حجة وعشرين عمرة مبرورات متقبلات وعشرين غزوة مع نبي
مرسل أو إمام عدل، ومن أتاه في يوم عيد كتب الله له مائة حجة ومائة عمرة ومائة غزوة
مع نبي مرسل أو إمام عدل، ومن أتاه يوم عرفة عارفاً بحقه كتب الله له ألف حجة وألف
عمرة متقَبَّلات وألف غزوة مع نبي مرسل أو إمام عدل! قال فقلت له: وكيف لي بمثل
الموقف؟ قال فنظر إليَّ شبه المغضب ثم قال: يا بشير! إن المؤمن إذا أتى قبر الحسين
عليه
السلام يوم عرفة واغتسل في
الفرات ثم توجّه إليه كتب الله له بكل خطوة حجة بمناسكها ولا أعلمه إلا قال
وغزوة.»
فهل
يمكن لمن يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر أن يصدّق هذا الحديث من مثل ذلك الكذاب؟
وما هي الفائدة التي نجنيها من مثل هذا الحديث سوى إهمال التقيد بأحكام الإسلام
التي فيها حياة الناس وقيام أمرهم والاكتفاء بدلاً من ذلك بمثل تلك الزيارة التي لا
تشكِّل أبداً جزءاً من الفرائض الإلهية أو الواجبات الشرعية؟!
الأخطر
من ذلك ما ورد عن هذا الراوي أيضاً في «كامل
الزيارات» (ص174 - 175) في فضل زيارة عاشوراء
التي يرويها محمد بن موسى الهمداني الذي هو كذلك من الغلاة الكذابين عن سيف بن
عميرة الواقفي المطعون الملعون عن صاحبنا صالح بن عقبة عن مالك الجهني: «عن أبي جعفر الباقر
عليه
السلام قال من زار الحسين
عليه
السلام يوم عاشوراء من المحرم
حتى يظل عنده باكياً لقيَ اللهَ تعالى يوم القيامة بثواب ألفي ألف [ألف] حجة وألفي
[ألف] ألف عمرة وألفي ألف غزوة وثواب كل حجة وعمرة وغزوة كثواب من حج واعتمر وغزا
مع رسول الله (صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ومع الأئمة الراشدين
صلوات الله عليهم أجمعين!».
لاحظ
أيها القارئ كيف أن هذا العمل - قراءة زيارة عاشوراء والبكاء - الذي يمكن إنجازه عن
بُعْدٍ أيضاً لم يُبْقِ أيَّ قيمةٍ لسائر أحكام الدين! أفليس هذا كذبٌ على الله
ورسوله وأئمّةِ الهدى عليهم السلام؟ وهل يمكن لأي نبيٍّ أو إمامٍ أو صالحٍ في
العالم أن يقوم خلال عمره بمليوني حجة ومليوني عمرة ومليوني عزوة مع نبي أو إمام؟
والتي سينال أجرها وثوابها من يقرأ زيارة عاشوراء فقط فإذا قرأها مرات عديدة فكم
يصبح أجره عندئذٍ؟! إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ ذاته وأئمة
الهدى عليهم السلام لم يحجوا في عمرهم سوى حجة واحدة وأقصى ما قام به بعضهم هو
عشرين حجة في حياته، أما ذلك الزائر القارئ للزيارة في عاشوراء فسيفوقهم أجراً
بكثير لأنه سينال ثواب مليوني حجة!!
17
- عبد الرحمن بن كثير:
أ
- جاء في رجال النجاشي (ص189) خلال ترجمة حال «علي بن حسان» الذي
يروي عن عمه عبد الرحمن بن كثير: «عبد الرحمن
بن كثير الهاشمي ضعيف جداً، ذكره بعض أصحابنا في الغلاة، فاسد الاعتقاد.»
ب
- ويقول الغضائري كما ورد في مجمع الرجال (ص176) في ترجمة علي بن حسان: «روى عن عمه عبد الرحمن بن كثير، غال ضعيف».
ج
- ونقل العلامة الحلي في رجاله (ص233) قول الغضائري والنجاشي ثم قال أن المسعودي
قال: «فهو كذاب وهو واقفي».
18
- عبد الله بن عبد الرحمن الأصم:
رُويت
عن هذا الرجل أحاديث كثيرة في كتاب «كامل
الزيارات» في حين أن كتب الرجال قالت عنه ما
يلي:
أ)
رجال النجاشي ص161: «عبد الله بن عبد الرحمن
الأصم المسمى بصريّ ضعيف غال ليس بشيء وله كتاب المزار!» (ويبدو أن هذا الكتاب هو ذات أحاديثه الملفقة
والكثيرة حول الزيارة).
ب)
وقال الغضائري عنه كما جاء في مجمع الرجال (ج4/ص25): «عبد الله بن عبد الرحمن الأصم المسمى بصريّ ضعيف
مرتفع القول، وله كتاب في الزيارات، ما يدل على خبث عظيم ومذهب متهافت، وكان من
كذابة أهل البصرة».
ج)
وذكره العلامة الحلي رحمة الله عليه في القسم الثاني من رجاله المخصص للضعفاء
(ص238) وقال: «عبد الله بن عبد الرحمن الأصم
بصريّ ضعيف غال، ليس بشيء، وله كتاب في الزيارات يدل على خبث عظيم ومذهب متهافت
وكان من كذابة أهل البصرة».
وإليكم
بعض أحاديث هذا الغالي الخبيث وكذاب البصرة التي زيّن بها (!) ابن قولويه كتابه
«كامل الزيارات»، كهذا الحديث الذي جاء في الصفحة 68و69 بسنده عن
حضرة الصادق عليه السلام:
«حدثني محمد
بن عبد الله بن جعفر الحميري عن أبيه عن علي بن محمد بن سالم عن محمد بن خالد عن
عبد الله بن حماد البصري عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم عن مسمع بن عبد
الملك عن أبي عبد الله عليه
السلام قال: كان الحسين
عليه
السلام مع أمه تحمله فأخذه
رسول الله (صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) فقال لعن الله
قاتليك ولعن الله سالبيك..... (إلى قوله
صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ لفاطمة):...
ويأتيه قومٌ من محبينا
ليس في الأرض أعلم بالله ولا أقوم بحقنا منهم وليس على ظهر الأرض أحدٌ يلتفت إليه
غيرهم أولئك مصابيح في ظلمات الجور وهم الشفعاء وهم واردون حوضي غداً أعرفهم إذا
وردوا عليَّ بسيماهم.... الحديث بطوله!»
لاحِظ
أنه في هذا الحديث: زوار الحسين هم الوحيدون الذين يكونون أعلم الناس باللهِ
وأقومهم بحقوق رسول الله! وهم وحدهم الملتفتون إلى حضرته صَلَّى اللهُ عَلَيه
وَآلِهِ وَسَلَّمَ! فهم مصابيح الهدى وشفعاء المحشر! فهل هذا هو شأن زوّار الحسين
اليوم حقاً؟!
كما
يروي هذا الراوي حديثاً آخر عن حضرة الصادق عليه
السلام جاء
في (الصفحة 81 و82) من «كامل
الزيارات» ونصه:
«وحدثني
محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري عن أبيه عن علي بن محمد بن سالم عن محمد بن خالد
عن عبد الله بن حماد البصري عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم عن أبي يعقوب
عن أبان بن عثمان عن زرارة قال: قال أبو عبد الله عليه
السلام: يا زرارة! إن
السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً بالدم وإن الأرض بكت أربعين صباحاً بالسواد
وإن الشمس بكت أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة وإن الجبال تقطعت وانتثرت وإن البحار
تفجرت وإن الملائكة بكت أربعين صباحاً على الحسين عليه
السلام وما اختضبت منا امرأة
ولا ادهنت ولا اكتحلت ولا رجلت حتى أتانا رأس عبيد الله بن زياد... (إلى
قوله):... وما من عينٍ أحب إلى الله ولا عبرة من عين بكت ودمعت عليه، وما من
باكٍ يبكيه إلا وقد وصل فاطمة عليها السلام وأسعدها عليه ووصل رسول الله وأدى حقنا
وما من عبد يحشر إلا وعيناه باكية إلا الباكين على جدي الحسين عليه
السلام فإنه يحشر وعينه قريرة
والبشارة تلقاه والسرور بيِّنٌ على
وجهه والخلق في الفزع وهم آمنون والخلق يعرضون وهم حداث الحسين عليه
السلام تحت العرش وفي ظل
العرش لا يخافون سوء يوم الحساب يُقَالُ لهم ادخلوا الجنة فيأبون ويختارون مجلسه
وحديثه وإن الحور لترسل إليهم......
(إلى آخر الحديث)!»
نعم!
مثل هذه الأحاديث التي يرويها الكذابون والغلاة، هي التي تُشعِلُ نار العداوة
والحروب التي نعرفها.
وفي
(ص 86 - 87) من «كامل الزيارات» حديث آخر لذلك الكذاب جاء
فيه:
«حدثني محمد
بن عبد الله بن جعفر الحميري عن أبيه عن علي بن محمد بن سالم عن محمد بن خالد عن
عبد الله بن حماد البصري عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم قال حدثنا الهيثم
بن واقد عن عبد الملك بن مقرن عن أبي عبد الله عليه
السلام قال: إذا زرتم أبا
عبد الله (الحسين) عليه
السلام فالزموا الصمت إلا من
خير وإن ملائكة الليل والنهار من الحفظة تحضر الملائكة الذين بالحائر فتصافحهم فلا
يجيبونها من شدة البكاء فينتظرونهم حتى تزول الشمس وحتى ينوِّر الفجر ثم يكلّمونهم
ويسألونهم عن أشياء من أمر السماء فأما ما بين هذين الوقتين فإنهم لا ينطقون ولا
يفترون عن البكاء والدعاء ولا يشغلونهم في هذين الوقتين عن أصحابهم فإنما شغلهم بكم
إذا نطقتم! قلت: جعلت فداك! وما الذي يسألونهم عنه وأيهم يسأل صاحبه الحفظة أو أهل
الحائر قال أهل الحائر يسألون الحفظة لأن أهل الحائر من الملائكة لا يبرحون والحفظة
تنزل وتصعد! قلت: فما ترى يسألونهم عنه؟ قال: إنهم يمرون إذا عرجوا بإسماعيل صاحب
الهواء...... (إلى قوله):
ولو يعلمون ما في زيارته من الخير ويعلم ذلك الناس لاقتتلوا على زيارته بالسيوف
ولباعوا أموالهم في إتيانه.
وإن فاطمة
عليها السلام إذا نظرت إليهم ومعها ألف نبي وألف صديق وألف شهيد ومن الكروبيين ألف
ألف يساعدونها على البكاء وإنها لتشهق شهقة فلا يبقى في السماوات ملك إلا بكى رحمة
لصوتها وما تسكن حتى يأتيها النبي صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ [أبوها] فيقول: يا
بنية! قد أبكيتِ أهل السماوات وشغلتهم عن التسبيح والتقديس فكفى حتى يقدسوا فإن
الله بالغ أمره!! إنها لتنظر إلى من حضر منكم فتسأل الله لهم من كل خير ولا تزهدوا
في إتيانه فإن الخير في إتيانه أكثر من أن يحصى!»
ومن
مجموع هذا الحديث يُفْهَم أن تلك المعركة تدور كل يوم حيث ينزل الملائكة ويصعدون
ويجتمع الأنبياء والصديقون كلهم في خدمة الزهراء مع ملايين الملائكة الكروبيين!!
كلهم يسعى في تسكين بكائها، ثم تدعو فاطمة لزوَّار قبر الحسين... ويتكرَّر هذا
المشهد كل يوم.. وكأن كل المصائب التي حلت بفاطمة الزهراء - سلام الله عليها - في
الدنيا لم تكن كافيةً في غمِّها وحزنها بل لا بد أن تبكي وتحزن وتغتم حتى في الآخرة
وفي الجنة، وكذلك شأن سائر الأنبياء وأولياء الله!!، مع أن الله تعالى وصف حال
المؤمنين في الدار الآخرة بقوله: ((لاَ خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) (البقرة/112).
فباللهِ
عليكم أيها القراء المحترمون: هل هذه الأقاويل إلا أوهام من نسج خيال ذلك الوضَّاع،
ولا تدل إلا على جهله وشدَّه كذبه؟؟.
وفي
الصفحة 138 من الكتاب المذكور رواية أخرى هي التالية:
«مُحَمَّدُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ دَاوُدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَبَشِيِّ بْنِ قُونِيٍّ عَنْ
جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ السُّلَمِيِّ عَنْ
عَبْدِ الله بْنِ حَمَّادٍ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ
الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه
السلام قَالَ قُلْتُ لَهُ:
جُعِلْتُ فِدَاكَ! مَا تَقُولُ فِيمَنْ تَرَكَ زِيَارَةَ الْحُسَيْنِ
عليه
السلام وهُوَ يَقْدِرُ عَلَى
ذَلِكَ؟ قَالَ: إِنَّهُ قَدْ عَقَّ رَسُولَ الله صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وعَقَّنَا
واسْتَخَفَّ بِأَمْرٍ هُوَ لَهُ ومَنْ زَارَهُ كَانَ الله لَهُ مِنْ وَرَاءِ
حَوَائِجِهِ وكُفِيَ مَا أَهَمَّهُ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُ وإِنَّهُ يَجْلِبُ
الرِّزْقَ عَلَى الْعَبْدِ ويُخْلِفُ عَلَيْهِ مَا يُنْفِقُ ويُغْفَرُ لَهُ ذُنُوبُ
خَمْسِينَ سَنَةً ويَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ ومَا عَلَيْهِ وِزْرٌ ولَا خَطِيئَةٌ
إِلَّا وقَدْ مُحِيَتْ مِنْ صَحِيفَتِهِ.... (إلى آخر
الحديث»
وقد
روى الشيخ الطوسي عن ذلك الخبيث هذا الحديث في كتابه «تهذيب الأحكام» (ج6/ص45)!
لعمري
إن هؤلاء الغلاة الكذابين ليسخرون بتلفيقاتهم تلك من خلق الله ودين الله وأنبياء
الله وأولياءه ويصوِّرُون وكأنه ليس لله غايةٌ من خلق البشر ولا لأنبيائه من
هدف سوى البكاء على الحسين عليه السلام بل كأن الغرض من الخليقة كلها البكاء على
الإمام الحسين أو زيارته!!
وفي
الصفحة 101 من ذلك الكتاب حديث عجيب آخر أيضاً اختلقه ذلك الكذاب جاء فيه:
«حدثني محمد
بن عبد الله بن جعفر الحميري عن أبيه عن علي بن محمد بن سالم عن محمد بن خالد عن
عبد الله بن حماد البصري عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم عن مسمع بن عبد
الملك كردين البصري قال قال لي أبو عبد الله عليه
السلام: يا مسمع! أنت من
أهل العراق أ ما تأتي قبر الحسين عليه
السلام؟ قلت: لا أنا رجل
مشهور عند أهل البصرة وعندنا من يتبع هوى هذا الخليفة وعدونا كثير من أهل القبائل
من النصاب وغيرهم ولست آمنهم أن يرفعوا حالي عند ولد سليمان فيمثلون بي! قال لي:
أفما تذكر ما صنع به؟ قلت: نعم! قال: فتجزع؟ قلت: إي والله وأستعبر لذلك حتى يرى
أهلي أثر ذلك علي فأمتنع من الطعام حتى يستبين ذلك في وجهي!. قال: رحم الله دمعتك!
أما إنك من الذين يعدون من أهل الجزع لنا والذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا
ويخافون لخوفنا ويأمنون إذا أمنا، أما إنك سترى عند موتك حضور آبائي لك ووصيتهم ملك
الموت بك وما يلقونك به من البشارة أفضل ولملك الموت أرق عليك وأشد رحمة لك من الأم
الشفيقة على ولدها....(إلى
آخر الحديث الطويل الذي يستغرق أكثر من صفحتين أخريين ومن أراد تفصيله فليرجع إلى
الكتاب المذكور!)».
إن
كتاب «كامل الزيارات» مملوء من أمثال هذه الأحاديث التي يرويها الغلاة
والكذابون ليضلوا بها عباد الله ويجرئوهم على معاصي الله، وينزِّلُوا من قيمة
العبادات التي قررها الشرع ويستبدلوها بمثل هذه الأعمال التي يعادل القيام بواحد
منها ثواب آلاف العبادات الشرعية!!
19
- عبد الله بن القاسم الحضرمي:
وهو
أحد رواة أحاديث الزيارة والشفاعة المشهورين وفيما يلي ما قالته كتب الرجال عنه:
أ)
قال الغضائري عنه كما جاء في مجمع الرجال (ج4/ص35): «عبد الله بن القاسم الحضرمي غالٍ متهافتٌ لا
ارتفاع به».
ب)
وفي رجالالنجاشي (ص167): «عبد الله بن
القاسم الحضرمي المعروف بالبطل، كذابٌ، غالٍ، يروي عن الغلاة، لا خير فيه ولا
يُعْتَدُّ بروايته.».
ج)
وفي رجال العلامة الحليّ (ص336): «عبد الله
بن القاسم الحضرمي من أصحاب الكاظم عليه السلام واقفيٌّ وهو يُعْرَفُ بالبطل، وكان
كذّاباً روى عن الغلاة لا خير فيه ولا يُعْتَدُّ بروايته وليس بشيء ولا يُرتَفَع
به.».
لقد
لفَّق هذا الشخص الغالي والكذاب وصاحب تلك السوابق السيئة أحاديثَ أوحاها له شيطانه
فنسبها إلى الأئمة عليهم السلام من ذلك ما جاء في «كامل الزيارات» (ص119):
«حدثني محمد
بن جعفر الرزاز الكوفي عن خاله محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن موسى بن سعدان عن
عبد الله بن القاسم عن عمر بن أبان الكلبي عن أبان بن تغلب قال قال أبو عبد الله
عليه
السلام أربعة آلاف ملك عند
قبر الحسين عليه
السلام شعث غبر يبكونه إلى
يوم القيامة رئيسهم ملك يقال له منصور ولا يزوره زائر إلا استقبلوه ولا يودعه مودع
إلا شيعوه ولا يمرض إلا عادوه ولا يموت إلا صلوا عليه [وعلى جنازته] واستغفروا له
بعد موته».
وفي الصفحة
192 من ذلك الكتاب أيضاً تكرارٌ لروايته تلك وفيها:
«حدثني محمد
بن جعفر عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن موسى بن سعدان عن عبد الله بن القاسم
عن عمر بن أبان الكلبي عن أبان بن تغلب قال قال أبو عبد الله عليه
السلام: هبط أربعة آلاف ملك يريدون القتال مع الحسين عليه السلام فلم
يؤذن لهم في القتال! فرجعوا في الاستئذان فهبطوا وقد قُتِلَ الحسين
عليه
السلام، فهم عند قبره شُعْثٌ
غُبْرٌ يبكونه إلى يوم القيامة، رئيسهم ملك يقال له منصور، فلا يزوره زائر إلا
استقبلوه ولا يودعه مودع إلا شيّعوه، ولا يمرض مريض إلا عادوه ولا يموت إلا
صلوا على جنازته واستغفروا له بعد موته وكل هؤلاء في الأرض ينتظرون قيام القائم
عليه
السلام».
وكذلك في
الصفحة 66 من «كامل
الزيارات»
حديث خرافي آخر عن مَلَكٍ اسمه «فطرس
مَلَك»! غضب الله عليه لتأخره في أداء
مهمّةٍ ما فنفاه الله إلى جزيرةٍ مدة ستمئة عام! حتى ولد الحسين فجاء وتمسَّح به،
وهو لا يزال رضيعاً حديث الولادة في قنداقه، فعُفِيَ عنه، فوعد أن يبلغ سلام كل
زائر للحسين إليه! جاء في الرواية:
«...فأخبر
فطرس النبي صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ بحاله، فدعا له النبي
صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وقال له: تمسَّح بهذا
المولود (أي الحسين) وعد إلى مكانك! قال: فتمسَّح فطرس بالحسين عليه
السلام وارتفع وقال: يا رسول
الله! أما إن أمتك ستقتله وله عليّ مكافاة أن لا يزوره زائر إلا بلغته عنه
ولا يسلِّم عليه مسلِّم إلا بلَّغته سلامه ولا يصلِّي عليه مصلٍّ إلا
بلَّغته عليه صلاته، قال: ثم ارتفع!!».
وقد أطلنا
في ذكر مثل هذه الأوهام والخرافات الملفقة لأن بعض قراء المراثي في مجالس عزاء
الحسين يقرؤون أحياناً أمثال هذه القصص الخرافية ليثيروا بها العوام فكان لا بد من
بيان حالها ومعرفة مصدرها لكي يعرف القارئ ماذا فعل بنا الغلاة والكذابون والمفسدون
أمثال عبد
الله بن القاسم الحضرمي وموسى بن سعدان!.
20
- عبد الله بن ميمون القدّاح: هذا المفسد من مؤسسي مذهب القرامطة
الإسماعيلية ويكفي هذا في معرفة حاله!
21
- عثمان بن عيسى:
هذا الشخص طبقاً لتصريح علماء الرجال
واقفيٌ، وذكر عنه «الكشي» في رجاله ما يفيد أنه كان لديه مال كثير عن الأئمة
ولما طالبه بها الإمام الرضا عليه السلام بعد وفاة أبيه الإمام الكاظم عليه السلام
استنكف عن دفعها إليه، وأن الإمام الرضا عليه السلام سخط عليه لأجل ذلك، هذا وقد
جاء تفصيل سوابقه وأخباره أيضاً في «تنقيح
المقال» (ج2/ص247) حيث بين ثمَّةَ تخلفه
واستنكافه عن إطاعة أمر الإمام الرضا عليه السلام.
وقد
ضعّفه بشكل عام كل من الجزائري وابن داوود
والمحقق الأردبيلي والفاضل المقداد وصاحب المدارك والعلامة
الحلي.
وفيما يلي
حديث آخر في موضوع الزيارة رُوي عن هذا المغرور الجريء على الله ورسوله كما جاء في
«تهذيب الأحكام» للشيخ الطوسي (ج6/ص4):
«وعَنْهُ
عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الله عَنْ
عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى عَنِ الْمُعَلَّى بْنِ شِهَابٍ قَالَ قَالَ الْحُسَيْنُ
عليه
السلام لِرَسُولِ الله
صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ يَا أَبَتَاهْ مَا
جَزَاءُ مَنْ زَارَكَ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ! مَنْ زَارَنِي حَيّاً أَوْ مَيِّتاً
أَوْ زَارَ أَبَاكَ أَوْ زَارَ أَخَاكَ أَوْ زَارَكَ كَانَ حَقّاً عَلَيَّ أَنْ
أَزُورَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وأُخَلِّصَهُ مِنْ ذُنُوبِهِ!».
وكأن حضرة
الحسين عليه
السلام كان
يعلم منذ طفولته بأنه ما خُلق إلا ليزوره الناس إلا أنه لم يكن يعلم مقدار ثواب
زيارته! أو أنه أراد أن يصل إلى الناس خبر ذلك لذا سأل رسولَ الله (صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ)
عن مقدار ذلك الثواب!؟.
22
- علي بن حسان: وقد جاءت الإشارة إلى ترجمة حاله وقيمة رواياته خلال ترجمة
عمه عبد الرحمن بن كثير (65).
23
- علي بن فضّال: وصفه صاحب السرائر بأنه ملعونٌ ورأس كل ضلال هو
وأبوه.
24
- عمرو بن ثابت: وصفه في مجمع الرجال (ص275) بأنه «ضعيفٌ جداً».
25
- القاسم بن يحيى: وهو يروي عن جده «الحسن بن
راشد»: وقال الغضائري رضي
الله عنه كما
جاء في مجمع الرجال (ج5/ص53): «روى عن جده
ضعيفٌ». ووصفه التفرشي في «نقد الرجال» بأنه فاسد المذهب. وتبع العلامةُ الحليُّ الغضائريَّ
فيما قاله عنه واعتبره ضعيفاً في خلاصته، ومع ذلك فإن أول حديث في كتاب
«كامل
الزيارات»
مروي عن هذا الراوي وهو ذات الحديث الذي أورده الشيخ الطوسي في «تهذيب الأحكام» (ج6/ص40) ونصه:
«سَعْدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
خَلَفٍ عَنِ القَاسِمِ بْنِ يَحْيَى عَنْ جَدِّهِ الحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ
عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه
السلام قَالَ: بَيْنَا
الحسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عليه
السلام فِي حَجْرِ رَسُولِ
الله صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ إِذْ رَفَعَ رَأْسَهُ
فَقَالَ: يَا أَبَهْ! مَا لِمَنْ زَارَكَ بَعْدَ مَوْتِكَ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ
مَنْ أَتَانِي زَائِراً بَعْدَ مَوْتِي فَلَهُ الجَنَّةُ ومَنْ أَتَى أَبَاكَ
زَائِراً بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَهُ الجَنَّةُ ومَنْ أَتَى أَخَاكَ زَائِراً بَعْدَ
مَوْتِهِ فَلَهُ الجَنَّةُ ومَنْ أَتَاكَ زَائِراً بَعْدَ مَوْتِكَ فَلَهُ
الجَنَّةُ.».
وهناك حديث
آخر عظيم البركة (!) عن هذا الراوي أي القاسم بن يحيى الموصوف بأنه فاسد المذهب
وضعيف الرواية، يرويه عن يونس بن ظبيان الذي يُعَدُّ من أشهر الغلاة والكذابين،
فيما يلي نصه كما جاء في «كامل
الزيارات»
(ص170 - 171):
«حدثني أبي
رضي الله عنه وعلي بن الحسين عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد
بن خالد البرقي عن القاسم بن يحيى بن الحسن بن الراشد عن جده الحسن عن يونس بن
ظبيان قال: قال أبو عبد الله عليه
السلام: من زار الحسين
عليه
السلام ليلة النصف من شعبان
وليلة الفطر وليلة عرفة في سنة واحدة كتب الله له ألف حجة مبرورة وألف عمرة متقبلة
وقضيت له ألف حاجة من حوائج الدنيا والآخرة».
لاحظ أيها
القارئ أن ثلاث زيارات فقط تعطي صاحبها من الثواب ما لا يستطيع حتى إمام أو
نبي تحصيله! فليسمع من لم يسمع!!
ويذكرني
هذا بقول الشاعر:
سرّ خدا كه
عارف كامل به كس نگفت ** در حيرتم كه باده فروش از كجا شنيد؟
إن العارف
الكامل لم يبح بسر الله لأحد! فأنا محتار من أين سمعه بائع الخمر؟!
26 -
محمد بن أرومة:
أ) رجال
النجاشي (ص 253): «محمد بن أورمة أبو جعفر
القمي: ذكره القميون وغمزوا عليه ورموه بالغلو حتى دس عليه من يفتك به، فوجدوه يصلي
من أول الليل إلى آخره فتوقفوا عنه. وحكى جماعة من شيوخ القميين عن ابن الوليد أنه
قال محمد بن أورمة طُعِنَ عليه بالغلو».
ب)
وقال
المرحوم الغضائري عنه كما جاء في مجمع الرجال (ج5/ص160): «محمد بن أرومة أبو
جعفر القمّيّ اتهمه القمِّيُّون بالغلو».
ج)
الشيخ الطوسي في «الفهرست»: «محمد بن
أرومة: له كتب مثل كتب الحسين بن سعيد وفي رواياته تخليط، أخبرنا بجميعها إلا ما
كان فيها من تخليط أو غلو ابن أبي جيد عن ابن الوليد عن الحسين بن الحسن بن أبان
عنه، وقال أبو جعفر ابن بابويه محمد بن أرومة طعن عليه بالغلو فكلما كان في كتبه
مما يوجد في كتب الحسين بن سعيد وغيره فإنه يعتمد عليه ويفتي به وكلما تفرد به لم
يجز العمل عليه ولا يعتمد.».
د)
ووصفه العلامة الحلي في رجاله (ص252) بتلك الصفات السيئة إلى أن قال في آخر الكلام:
«والذي أراه التوقف في روايته».
27
- محمد بن أسلم: قال عنه العلامة في رجاله (ص252): «يقال أنه كان غالياً فاسد الحديث».
28
- محمد بن الحسن بن جمهور:
أ)
قال الغضائري عنه كما جاء في مجمع الرجال (ج5/ص184): «محمد بن الحسن بن جمهور أبو عبد الله العمي، غال
فاسد الحديث، لا يكتب حديثه، ورأيته له شعراً يحلل فيه محرمات الله عز وجل».
ب)
رجال النجاشي (ص 260): «محمد بن جمهور أبو
عبد الله العمي: ضعيف في الحديث، فاسد المذهب، وقيل فيه أشياء الله أعلم بها من
عظمها. روى عن الرضا عليه السلام. وله كتب كتاب الملاحم الكبير، كتاب نوادر الحج،
كتاب أدب العلم.».
ج)
رجالالعلامة الحلي (ص251): «محمد بن الحسن
بن جمهور: بالجيم والراء العمي عربي بصري روى عن الرضا عليه السلام كان ضعيفاً في
الحديث غالياً في المذهب فاسداً في الرواية لا يُلتَفَت إلى حديثه ولا يُعْتَمَد
على ما يرويه.».
29
- محمد بن الحسن بن شمون:
أ)
قال الغضائري عنه كما جاء في مجمع الرجال (ج5/ص187): «أصله بصري واقفي ثم غلا، ضعيف متهافت لا يلتفت
إليه وإلى مصنفاته».
ب)
في رجال النجاشي (ص258): «محمد بن الحسن بن
شمون: أبو جعفر، بغدادي، واقف، ثم غلا، وكان ضعيفا جدا، فاسد المذهب. وأضيف إليه
أحاديث في الوقف، وقيل فيه.».
ج)
رجال العلامة الحلي (ص252): «محمد بن الحسن
بن شمون: بالشين المعجمة والنون أبو جعفر بغدادي من أصحاب العسكري عليه
السلام واقف ثم غلا وكان ضعيفاً جداً فاسد المذهب وأضيف إليه أحاديث في الوقف وعاش
مائة وأربع عشرة سنة ومات سنة ثمان وخمسين ومائتين وكان أصله بصرياً وهو متهافتٌ
لا يُلتَفَتُ إليه ولا إلى مصنفاته وسائر ما يُنْسَب إليه.».
30
- محمد بن سنان الديلمي:
أ)
رجال النجاشي (ص282): «محمد بن سليمان
الديلمي ضعيف جداً لا يُعَوّلُ عليه في شيء».
ب)
قال الغضائري عنه كما جاء في مجمع الرجال (ج5/ص219): «محمد بن سليمان زكريا الديلمي أبو عبد الله ضعيف
في حديثه مرتفع في مذهبه لا يُلتَفَت إليه».
ج)
ووصفه العلامة الحلي في رجاله (ص255) بعبارات النجاشي ذاتها.
31 - محمد بن
سنان:
لقد
شرحنا حال هذا الراوي سيء الصيت الذي يُعَدُّ من الكذابين المشهورين في كتابنا
«الشفاعة»، بالتفصيل، ونكتفي بإشارة سريعة هنا:
أ)
قال عنه الشيخ الطوسي في «الفهرست» (ص143): «له
كتب وقد طُعِنَ عليه وضُعِّفَ. وكُتُبُه مثل كتب الحسين بن سعيد على عددها وله كتاب
النوادر وجميع ما رواه إلا ما كان فيها من تخليط أو غلوّ...».
ب)
وقال عنه العلامة الحلي في رجاله (ص251): «محمد بن سنان...وقد اختلف علماؤنا في شأنه فالشيخ
المفيد رضي الله عنه قال إنه ثقة وأما الشيخ الطوسي رحمه الله فإنه ضعَّفَه
وكذا قال النجاشي، وابن الغضائري قال: إنه ضعيف غال لا يُلتَفَتُ إليه. وروى الكشي
فيه قدحاً عظيماً وأثنى عليه أيضاً! والوجه عندي التوقف فيما يرويه فإن
الفضل بن شاذان رحمه الله قال في بعض كتبه: إن من الكذابين المشهورين ابن
سنان..».
وفيما
يلي أحد رواياته كما جاءت في كتاب «كامل
الزيارات» (ص67):
«... عن
محمد بن سنان عن أبي سعيد القماط عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام
قال بينما رسول الله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في منزل فاطمة عليها
السلام والحسين في حجره، إذ بكى وخر ساجداً ثم قال: يا فاطمة! يا بنت محمد! إن
العليَّ الأعلى تراءى لي في بيتك هذا في ساعتي هذه في أحسن صورة وأهيأ هيئة وقال
لي: يا محمد! أتحب الحسين عليه السلام؟ فقلت:
نعم قرة عيني وريحانتي وثمرة فؤادي وجلدة ما بين عيني. فقال لي: يا محمد! - ووضع
يده على رأس الحسين عليه السلام - بورك من مولود عليه بركاتي وصلواتي ورحمتي
ورضواني ولعنتي وسخطي وعذابي وخزيي ونكالي على من قتله وناصبه وناوأه ونازعه أما
إنه سيد الشهداء من الأولين والآخرين في الدنيا والآخرة.... وذكر
الحديث»
لاحظ
أيها القارئ كيف جاء الله تعالى إلى بيت فاطمة ومسح على رأس الحسين وقال كذا وكذا!!
أجل هذه هي المعارف الإلـهية العالية التي يريدون أن يهدوها للمجتمع البشري باسم
شيعة عليّ! ولا غرو فمحمد بن سنان كما قلنا من الكذابين المشاهير، فليس بغريب منه
تلفيق مثل هذه الترَّهات.
وإليكم
حديثاً عجيباً آخر لهذا المفتري في الصفحة 267 من «كامل الزيارات»:
«عن
محمد بن سنان عن أبي سعيد القماط عن عمر بن يزيد بياع السابري عن أبي عبد الله عليه
السلام قال: إن أرض الكعبة قالت من مثلي وقد بنى الله بيته [بني بيت الله] على
ظهري ويأتيني الناس من كل فج عميق وجعلت حرم الله وأمنه فأوحى الله إليها أن كفّي
وقري فوعزتي وجلالي ما فضل ما فضلت به فيما أعطيت به أرض كربلاء إلا بمنزلة الإبرة
غرست [غمست] في البحر فحملت من ماء البحر ولولا تربة كربلاء ما فضلتك ولولا ما
تضمنته أرض كربلاء لما خلقتك ولا خلقت البيت الذي افتخرت به فقري واستقري وكوني
دنيا متواضعاً ذليلاً مهيناً غير مستنكف ولامستكبر لأرض كربلاء وإلا سخت بك وهويت
بك في نار جهنم!».
نعم
هذه هي الأسرار التي يُدَّعى أن الأئمة لم يكونوا يبوحون بها إلا إلى أولئك الغلاة
الأفاكين!! ألا لعنة الله على الكذابين الغلاة الذين شوهوا دين الإسلام وشوهوا صورة
أهل بيت رسول الله أمام العالم بمثل هذه الضلالات التي لا تعدو في نظرنا سوى دسائس
تهدف إلى محو آثار الإسلام وهدم أركانه.
32
- محمد بن صدقة:
أ)
مجمع الرجال (ج5/ص36) «محمد بن صدقة بصري
غال».
ب)
رجال الطوسي (ص391): «محمد بن صدقة بصري
غال».
وأعجب
العجب أن الشيخ الطوسي رحمه الله الذي اعتبر هذا الراوي غالياً إذا به نفسه يروي
عنه الحديث التالي في كتابه «تهذيب
الأحكام» (ج6/ص44):
«..عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَدَقَةَ عَنْ صَالِحٍ النِّيلِيِّ
قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ الله عليه السلام: مَنْ أَتَى قَبْرَ الْحُسَيْنِ
عليه السلام عَارِفاً بِحَقِّهِ كَتَبَ الله لَهُ أَجْرَ مَنْ أَعْتَقَ
أَلْفَ نَسَمَةٍ وكَمَنْ حَمَلَ عَلَى أَلْفِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ الله مُسْرَجَةٍ
مُلْجَمَةٍ!».
فليت
شعري هل قانون ثواب الله على هذه الدرجة من الرخاوة والعطاء بغير استحقاق ولا
حساب؟! أليس هو القائل ((إِنَّ
اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ
الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ
وَيُقْتَلُونَ...))
(التوبة/111)، والقائل أيضاً ((أَمْ
حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ
خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ
حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا
إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ))
(البقرة/214)، فنيل الحسنات والدرجات ودخول الجنة ليس بسيطاً بكل تلك السهولة! بل
يتطلب التضحية بالنفس والمال والصبر على البأساء والضراء، ولكن الغلاة الكذابين
جعلوها مفتوحة الأبواب بلا حساب ولا كتاب لكل من يقوم بزيارة وقراءة دعاء،
وبعدها لا حاجة أن يخاف من معصية الله وعذابه! وبذلك فإن تلك الروايات لا تُنْشِئُ
إلا أشخاصاً متحررين من كل قيد والتزام كما نشاهد في أيامنا!
وإذا
كان الأمر كذلك فلماذا نجد القرآن المجيد قد ضيق الأمر إلى درجة تأكيده أن كل مثقال
ذرة من الشر سيحاسب عليها الإنسان: ((فَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ))
(الزلزلة/7-8) ويقول كذلك: ((وَنَضَعُ
الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا
وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا
حَاسِبِينَ))
(الأنبياء/47)، ويقول: ((يَا
بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ
أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ
خَبِيرٌ))
(لقمان/16).
وكفى
بالله حسيباً، ولا شك لدينا في رحمة الله الواسعة وفضله الذي لا حد له ولا حصر،
ولكنه شرع الثواب على الأعمال التي أمر بها وليس على عمل لم يأت الأمر به في أي
موضع من القرآن الكريم فمثل هذا التوزيع للثواب المجازف به ليس سوى من تطفل الغلاة
وفضولهم.
33
- محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني:
أ)
في رجال الطوسي (ص427): «محمد بن عيسى بن
عبيد اليقطيني ضعيف».
ب)
في الفهرست (ص167): «محمد بن عيسى بن عبيد
اليقطيني ضعيف، وقيل إنه كان يذهب مذهب الغلاة».
34
- محمد بن فضيل:
مجمع
الرجال (ج6/ص23): «محمد بن فضيل الأسدي ضعيف،
يُرْمَى بالغلو».
35
- محمد بن موسى الهمداني:
أ)
قال الغضائري عنه كما جاء في مجمع الرجال (ج6/ص52): «محمد بن موسى بن عيسى السمّان أبو جعفر الهمداني
ضعيف يروي عن الضعفاء تكلم فيه القميون بالرد».
ب)
وفي رجال النجاشي (ص260): «محمد بن موسى بن
عيسى أبو جعفر الهمداني السمان، ضعفه القميون بالغلو، وكان ابن الوليد يقول إنه كان
يضع الحديث، والله أعلم.».
ج)
وفي رجال العلامة الحلي (ص252): «محمد بن
موسى بن عيسى أبو جعفر السمان الهمذاني، ضعيف يروي عن الضعفاء وضعّفه القمّيّون
بالغلو وكان ابن الوليد يقول إنه كان يضع الحديث والله أعلم. قال ابن الغضائري إنه
ضعيف يروي عن الضعفاء ويجوز أن يخرج شاهداً. تكلّم القمّيّون فيه فأكثروا واستثنوا
من كتاب نوادر الحكمة ما رواه.».
أجل،
إنه محمد بن موسى الهمداني ذاته الذي أتحف طائفة الشيعة بزيارة عاشوراء التي رواها
عن كذابين مثل «سيف بن عميرة» و«صالح بن
عقبة» والتي جعل لها كذا وكذا من الثواب مما لا
يستطيع فعله لا نبي مرسل ولا ملاك مقرَّب!!.
36
- المعَلَّى بن محمد:
أ)
مجمع الرجال (ج6/ص113): «المعَلَّى بن محمد
البصري أبو محمد يُعرف حديثه ويُنْكَر، ويروي عن الضعفاء».
ب)
رجال النجاشي (ص327): «المعَلَّى بن محمد
البصري أبو اسحق مضطرب الحديث والمذهب».
ج)
ووصفه العلامة في رجاله (ص259) بالأوصاف السيئة ذاتها.
37
- المفضل بن صالح أبو جميلة الأسدي:
أ)
تنقيح المقال (ج3/ص237): «قال الغضائري رحمة
الله عليه: المفضل بن صالح أبو جميلة الأسدي النحاس مولاهم، ضعيف كذاب يضع
الحديث».
ب)
وصفه العلامة الحلي في القسم الثاني من خلاصته بالأوصاف السيئة ذاتها، وهكذا فعل
ابن داوود وسائر علماء الرجال الذين اعتبروه ضعيفاً وكذاباً وواضعاً
للحديث.
38
- المفضل بن عمر:
أ)
قال الغضائري عنه كما جاء في مجمع الرجال (ج6/ص123 حتى 131): «المفضل بن عمر الجعفي أبو عبد الله ضعيف متهافت
مرتفع القول خطّابي وقد زيد عليه شيء كثير، وحمل الغلاة في حديثه حملاً عظيماً ولا
يجوز أن يُكْتَبَ حديثه.»
ب)
رجالالنجاشي (ص326): «مفضل بن عمر أبو عبد
الله قيل أبو محمد، الجعفي، كوفي، فاسد المذهب، مضطرب الرواية، لا يُعْبَأُ به.
وقيل إنه كان خطابياً. وقد ذكرت له مصنفات لا يُعَوَّلُ عليها.»
ج)
وفي رجالالعلامة الحلي (ص258): «مفضل بن عمر
الجعفي أبو عبد الله ضعيف كوفي فاسد المذهب مضطرب الرواية لا يعبأ به متهافت مرتفع
القول خطابي وقد زيد عليه شيء كثير وحمل الغلاة في حديثه حملا عظيما ولا يجوز أن
يكتب حديثه.».
39
- موسى بن سعدان:
أ)
في رجال النجاشي (ص317): «موسى بن سعدان
الحفّاظ ضعيف في الحديث».
ب)
في رجال العلامة (ص257): «موسى بن سعدان
الحفّاظ...روى عن أبي الحسن، ضعيفٌ في مذهبه غلوٌّ.».
40
- يونس بن ظبيان: من الغلاة والكذابين المشهورين وقد جاء ذكره وترجمة حاله
في أكثر من مكان في هذا الكتاب وقد أتينا بحديث له في ترجمتنا لأحوال «القاسم بن يحيى» يكفي في بيان حاله.(66).
41
- موسى بن عمران النخعي: سنتكلم عنه في المبحث التالي عند تمحيصنا لسند
«الزيارة الجامعة الكبيرة» (67).
بعد
أن انتهينا من ترجمة أحوال أهم رواة أحاديث فضائل الزيارة وأدعية الزيارة وتبين أن
جميعهم غلاة كذابون ولا يمكن الاعتماد على رواياتهم فإن سؤالاً يطرح نفسه: لو كان
أولئك الرواة حقيقة وفعلاً مثل ما وصفهم علماء الرجال كالغضائري والنجاشي والكشي
والشيخ الطوسي والعلامة الحلي وابن داوود - رحمة الله عليهم - غلاة ووضاعون وكذابون
فلماذا نجد أن علماءنا الأعلام رووا كثيراً من الأحاديث في كتبهم الدينية في مسائل
الأحكام الشرعية وفروع الفقه عن أولئك الرواة أنفسهم واعتمدوا على تلك الأحاديث في
فتاواهم وفقههم؟! فإذا كانوا كاذبين متروكي الرواية فلا بد من ترك رواياتهم برمتها
وليس هذا فحسب بل لابد من البراءة منهم ولعنهم، إذ ليس هناك كذبٌ أسوء من الكذب على
الله ورسوله، كيف والكذب بحد ذاته في أي موضوع جرمٌ في غاية القبح لعن الله فاعليه
فقال:
((فَنَجْعَلْ
لَعْنَةَ الله عَلَى الْكَاذِبِينَ))
(آل عمران/61)، فما بالك في الكذب على الله ورسوله الذي اعتبره الله تعالى من أظلم
الظلم وتوعَّد فاعليه في مواضع عديدة من كتابه الحكيم كقوله تعالى: ((فَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ
إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ))
(الأنعام/144)، وقوله: ((فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ
افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا...)) الأعراف/37، ويونس/17،
والكهف/15.
لذا
نرى أن موقفنا من أحاديثهم يجب أن يكون نفس ما أرشدنا إليه الأئمة -
عليهم
السلام - أنفسهم وهو أن نعرض كل ما ينسبه الرواة إليهم على القرآن الكريم فما وافق
القرآن أخذنا به وما خالفه ضربنا به عرض الحائط(68)،
ولما كانت أحاديث الزيارة وأنواع الثواب الأسطوري عليها مخالفة لروح القرآن ونصه
فهي أحاديث موضوعة ينبغي أن نضرب بها عرض الحائط.
لقد
كتبنا قبل عدّة سنوات بحث الزيارة هذا وجهزناه للطباعة ولكن ممانعة حراس الخرافات
وعرقلتهم لهذا الأمر منعتنا من طباعته وأجبرتنا على أن نضعه على الرف حتى سنحت
الفرصة بمساعدة بعض الإخوة لطباعته على الآلة الكاتبة وتصوير نسخ عديدة منه نضعها
أمام أنظار القراء الطالبين للحقيقة عسى أن يتأملوها بعقلهم الذي وهبهم الله إياه
فينجوا من ورطة الشرك والغلو الذي يعتبر أعظم ذنب في نظر الشريعة
المطهرة.
عسى
الله تعالى أن ينظر بعين الرحمة والكرم إلى هذه الأمة فينتشلها من ذلتها ونكبتها
ويرد المسلمين إلى أحكام الإسلام النقية والعظيمة التي فيها حياتهم وتقدمهم لا سيما
ما أمر الله به من الاتحاد وإقامة الحكومة الإسلامية وإقامة الجمعة والجماعات
والجهاد والعدل، وَمَا
تَوْفِيقِي إِلَّا باللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.
وفي
الختام نقول: إن احترام أولياء الله وأخذ العبرة والدروس من سيرتهم العظيمة والتأسي
بهم وزيارة مراقدهم بهذا الغرض ولنوقظ في أنفسنا الهمة والتضحية لأجل عزة الدين
وحرمته أمرٌ مطلوبٌ ومستحبٌ في نظر كل عاقل. ولقد تلكمنا عن هذا الأمر على نحو وافٍ
في كتابنا «فلسفه قيام حسين» (أي: فلسفة ثورة الحسين)، كما أننا قمنا قبل ثلاثين
عاماً في ليلة 19/ صفر/ 1369هـ بإلقاء خطبةٍ في الصحن الحسيني المطهر في كربلاء
بحضور عدة آلاف من الزوّار والمجاورين ننقلها فيما يلي للقراء المحترمين ونذكّر
بأننا لا زلنا نؤمن بما ذكرناه فيها ونلتزم به ونقترحه!
وقبل
أن أنقل الخطبة أود أن أذكِّر بنقطة هامَّة وهي أنه من الممكن أن يتصور بعض الناس
في نفسه أو يوسوس له بعض المغرضين بأن ما ذكرناه في كتابنا هذا ليس سوى ترديدٍ
لأفكار ودعايات الطائفة الوهابية وغيرها من أعداء الشيعة!
فأقول
في الإجابة عن هذه الشبهة:
أولاً:
ما ذكرناه في رسالتنا هذه مأخوذٌ كله من مصادرنا الشيعية الموثَّقة ومن كتاب الله
تعالى وسنة رسوله صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ
ومن التواريخ المعتبرة وسير صدر الإسلام الموثوقة، قبل أن يتلوث المسلمون ببدع
وخرافات الأمم الأخرى.
ثانياً:
إذا قالت الفرقة الوهابية أو أي فرقة أخرى قولاً حقاً يوافق كتاب الله وسنة رسوله
فهل علينا أن نرفضه أم يجب أن نقبل كل قول حسن يدل عليه الكتاب والسنة أياً كان
قائله عملاً بأمر الله تعالى الذي يقول:
((فَبَشِّرْ عِبَادِ
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ
هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ))
(الزمر/18) فهذا ما قمنا به ونؤمن به، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا
بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
+
+
+
في
ذكرى أربعين الحسين عليه
السلام عام
1369 هـ ق وعملاً بأمر حضرة العلّامة آية الله محمد الخالصي(69)
- رحمة الله عليه - قمت أنا العبد الفقير بإلقاء خطبة في الصحن الحسيني في جموع
الزوار من العرب والعجم الذين كان عددهم يربو على عدة آلاف تساءلت فيها: لماذا رغم
هذه الجهود وصرف الإيرانيين لأموالهم وأوقاتهم في الأمور الدينية، لا نجد حالهم
يتحسن ولا نجد أي ثمرة مفيدة تنعكس على حياتهم تجاه الإسلام؟! واستنتجتُ أن السبب
هو الوضع السيئ والخاطئ للخطاب الديني والتبليغات الإسلامية التي ابتعدت عن روح
الحقيقة وعن جوهر الإسلام وأصبحت ملوّثة بالأوهام والخرافات فلم يعد الإيرانيون
يخرجون بأي ثمرة مفيدة رغم كل عشقهم وشوقهم لأهل بيت الرسالة وبذلهم كل تلك الأموال
والأوقات لما يظنونه في اعتقادهم من أهم الأمور الدينية!
فمثلاً
هؤلاء الزوار أنفسهم الذين جاؤوا في مثل هذا العام لزيارة الحسين عليه
السلام غير
عابئين بجميع المصاعب والمشاكل التي واجهتهم في طريق السفر، تدفعهم قوة الحب
والإيمان، فصلوا إلى هذه العتبة المقدسة بصدورٍ متألمةٍ وأعينٍ باكيةٍ، ورغم كل ذلك
نجد أن النتيجة التي حصَّلوها من هذا السفر والجهد ليست سوى إيمانهم بأنهم - طبقاً
لما سمعوه من تبليغاتٍ خاطئة من المشايخ التقليديين - قاموا بإفراغ ما يحملونه في
جعبتهم من أكوام الذنوب فرموها على عتبة الحسين! ليعودوا إلى بلدانهم وقد غُفرت
جميع ذنوبهم مما يسمح لهم أن يعودوا فيملؤوا أكياسهم من الذنوب من جديد، أو على
الأقل يصيبهم الغرور بأنهم أصبح لديهم من الحسنات ما يجعلُ اللهَ مديناً لهم!!
وهدية
السفر التي يأتون بها لأقربائهم وأبناء مدنهم وقراهم ليست سوى وصف القباب والمآذن
المذهبة الجميلة وشكل الصحن الحسيني وروعة الضريح وفخامة الأقمشة والسجاد بالإضافة
إلى شيء من البضائع وتمر كربلاء!!
هذا
في حين أننا لو كنا نملك تشكيلات صحيحة، ومنظمة دعوة وتبليغ إسلامية صحيحة، لأخذنا
أعظم العبر ولتأثرنا كل التأثر من مشاهدة مزار أولئك الشهداء الأبطال الذين تلطخت
أكفانهم بالدماء في سبيل الدفاع عن الإسلام وحفظه من عدوان جنود الشيطان فقدموا
أرواحهم رخيصة على طبق الإخلاص في سبيل معشوقهم الحقيقي الله عز وجل. لو أن ذلك
المشهد ترافق بتبليغ صحيح جدير بهذا المكان لغرس في قلوب زوار قرابين دين الله
أولئك، روحَ التضحية والبذل في سبيل الله، ولنفخ فيهم العزم على السير على طريق
أولئك الرُوَّاد والهداة وتقديم كل غالٍ ورخيص لإعلاء كلمة الله وإحياء دين الله
كما فعل الحسين وأصحابه!
لو
كنا نملك زعماءَ وعلماءَ ومبلغينَ واعين وأكفَّاء لاستطاعوا غرس روح التضحية في
سبيل المجد والشرف والدين وحفظ حدود الإسلام في نفوس زوار الحسين، وأن ينفخوا في
الذين يشاهدون تلك المشاهد المثيرة للهمم روحَ حب الاستشهاد كالبركان الثائر والبحر
المتلاطم.
فلا
يوجد بيانٌ أبلغ ولا لسانٌ أوضح لتشجيع الناس على التضحية وبذل الروح لأجل الشرف
والعزة من مشاهدة قبور أئمة الدين المجاهدين الملطخة أكفانهم بدم الشهادة في تلك
الصحراء المحرقة حيث كانوا ينازلون أعداء الدين وشفاههم قد أبرمها العطش ووجوههم قد
علاها الإنهاك والغبار في تلك الملحمة البطولية التي قدموا فيها رؤوسهم وأطرافهم
رخيصةً في ميدان العشق الإلـهي على نحو أدهش ملائكة الملأ الأعلى وحيَّر الناظرين
في عالم الملكوت!
وبدلاً
من ذلك الضريح الفخم المزخرف بالذهب والفضة والجواهر والياقوت أي كل ما يحبه
الفراعنة ويتعلق به الطواغيت، كم كان من الأفضل لو أُبقيت تلك القبور الدارسة لسيد
شهداء كربلاء الحسين أبي الأحرار وأصحابه النبلاء على حالتها الطبيعية، كي يتذكر
الإنسان ولو بنظرة سطحية قطع الأبدان الممزقة والرؤوس المفصولة عن الأجساد والأرجل
والأصابع المقطعة المتناثرة لفدائيي الإسلام أولئك ويستحضر شفاههم العطشى التي سقطت
قرب نهر الفرات السيّال وهي تتحسر على جرعة ماء! ويتذكر أكبادهم التي فتتها العطش
وشرايينهم وأوْرِدَتَهم التي جفَّت فيها الدماء، إن زيارة مثل هذا المشهد كانت
كفيلة يقيناً بأن تشعل في قلب الزائر حرارة العشق الإلهي ذاتها التي حركت أولئك
المجاهدين البواسل وجعلتهم يقدمون أرواحهم رخيصة في سبيل رضا
المحبوب.
ألم
يكن أولئك الشهداء هم من يأتي بجراحهم يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح
المسك، ببركة تقديمهم أرواحَهم الغالية في سبيل ما هو أغلى من الروح أي الدفاع عن
الدين والحق والذَبّ عن أهل بيت النبي صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ؟
لقد
كانوا الفراشات التي احترقت أجنحتها وهي تحيط بالشعلة الحسينية لا بل كانوا نجوم
سماء الهداية التي تحيط بشمس الشهادة المشعّة، يكتسبون منها النور على الدوام
ليعكسوه إلى عالم البشر... ألا تستطيع مشاهدة قبورهم النيرة أن تشعّ في قلوب
الناظرين المظلمة ذلك النور فتخرجهم من ظلمات المادية وعبادة
الدنيا؟
قسماً
بالحق لو استطعنا أن نرفع الستار من وراء تلك الزخارف والمصابيح والثريات وصفائح
الذهب والفضة وأدوات الزينة التي لا تليق إلا بقبور الملوك وعُبَّاد الأموات، والتي
تحول دون تجليّ مشهد محفل الشهادة ذاك، وأن ننظر بعين طلّاب الحق إلى حفلة التضحية
بالأرواح تلك، لسارعنا إلى تقديم رؤوسنا وأيدينا على طبق الحب إلى مضيف ذلك الحفل
أي رب العالمين، عساه يتقبلنا لديه في جوار رحمته الأبدية مع الشهداء
والصالحين!
أقسم
بالله عليكم أيها المسؤولون عن تلك الزينات والزخارف، وأسألكم بجمال الله رب الجمال
إلا أزحتم ذلك الضريح الفضي والقطع المذهبة عن تلك القبور النيرة وأعدتم القمصان
الملطخة بالدماء والأكفان الحمراء إلى أجساد أسود عرين الدين الأعزاء أولئك،
وأسمعتمونا ذلك الرَّجَز الذي كانت شفاههم العطشى تلهث فيه مع أنفاسهم الأخيرة وهم
يسلمون الروح إلى بارئها، عسى ذلك أن يُحيي فينا من جديد منظر كربلاء ويوم عاشوراء،
فيبْرُزُ من بيننا شبابٌ أعزةٌ أحرارٌ كالحُرِّ بن يزيد الرياحِيّ التميمي، وشيوخٌ
أبطالٌ مثلُ حبيب بن مظاهر الأسدي، في هذا الزمن الذي يصرخ فيه جسد الإسلام في
أطراف الدنيا وأقصاها: «هل من ناصر ينصرني،
هل من معينٍ يعينني؟» فيهبوا لنصرته لينقذوه
من كربة غربته، لا أن يُعَلِّقَ الزوارُ آمالاً مغرورةً على نيل درجات هائلة من
الأجور وأنواع الثواب تعادل آلاف الحجات والغزوات، فيروا أنهم أدوا واجبهم نحو
الدين وزيادة، فلا حرج عليهم بعد ذلك إن نالوا نصيباً من الفسق والفساد، فقد صار
لديهم من الحسنات والأعمال الصالحة ما يكفيهم ويعوض تقصيرهم أضعافاً مضاعفة! كما هو
الحال مع الأسف الشديد!
بالله
عليكم أزيلوا ذلك الضريح الفضي والذهبي الذي لا يليق إلا بقبور الملوك والفراعنة
وجبابرة الأرض عن التربة الطاهرة لابن أبي تراب التي ضمت قطع بدنه المدمّاة، وإن
أردتم المزيد فاطرحوا نموذجاً وشبيهاً لقميصه المدمّى والممزق بالسهام على قبره
الشريف، وعندئذٍ اقرؤوا المرثية المثيرة للحماس لتعطوا القضية حقها وتجسدوا للناس
الساعات الأخيرة من حياة الحسين أي قصة العشق والفداء لسيد شباب أهل الجنة وريحانة
المصطفى الذي ودّع الدنيا وهو ينظر بقلبٍ يتفطر حسرة على تلك الأمة وينظر مشتاقاً
إلى أبنائه وأخواته ونسائه الذين تُركوا وحيدين بلا مأوى ولا نصير إلى مصيرٍ
مجهول في تلك البادية أمام جموع الأعداء، متمتماً:
إلهي
رضاً بقضائك وصبراً على بلائك!
ألن
يترك هذا أعظم الأثر في بيان عظمة الدين وقيمة التضحية في سبيله في نظر المسلمين؟؟
وعندئذٍ يمكننا أن نتوقع من زوار المرقد الحسيني أن يرجعوا بروحٍ مثل روح
التوّابين، الذين عندما رأوا ذلك القبر الغريب في صحراء كربلاء بعد مُضي أكثر من
خمس سنوات على واقعة عاشوراء، اشتعلت في نفوسهم نار الحسرة والندامة وقرروا أن لا
يقرّ لهم قرارٌ حتى يَهَبُوا أرواحهم وكل ما يملكون في طريق الحسين
وخطّه!
مثل
هذا المشهد المؤثر يمكن إقامته في المناسبات، حسب مقتضيات الزمان، في كل سنة مرة أو
مرتين، كما كان يفعل شيعة أهل البيت في الصدر الأول. ولكن يا للأسف الشديد، إن تلك
الدعايات الخرافية والخطاب الديني المنحرف حول أنواع الثواب التي لا حد لها ولا حصر
الذي يناله الزائر بمجرد زيارته للقبر قد أفرغ القضية من محتواها وحولها إلى مراسم
تقليدية تؤدى بهدف نيل ذلك الثواب العظيم، ولا تترك أثراً اللهم إلا إنشاء
ذهنية مخالفة لآيات القرآن الكريم تُضْعِفُ في النفس أوامر الدين ونواهيه وتشجِّعها
على التعدِّي على أحكام شريعة خاتم النبيين صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ، باعتبار أن الزائر يحصل من عظيم الأجر والثواب
ما يغطي كل ما ارتكبه وما سيرتكبه!.
+
+
+
من
الأدلة التي استند إليها آية الله العظمى (!) السيد أبو الفضل النبوي في كتابه
«أمراء الكون» لإثبات الولاية التكوينية للأئمة عليهم السلام
وتصرفهم في الكون وفي شؤون الخلق، بعض الفقرات من دعاء الزيارة المعروف باسم: «الزيارة الجامعة الكبيرة»(70)
مثل: «بِكُمْ فَتَحَ اللهُ وبِكُمْ يَخْتِمُ
وبِكُمْ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وبِكُمْ يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى
الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ وبِكُمْ يُنَفِّسُ الهمَّ ويَكْشِفُ
الضُّرَّ...»!!
وفي الصفحة 480 من كتابه المذكور استشهد
(أبو الفضل النبوي) بفقرة «وإِيَابُ الخَلْقِ
إِلَيْكُمْ وحِسَابُهُمْ عَلَيْكُمْ» في تلك
الزيارة، لإثبات أن الأئمة هم الذين يحاسبون الخلق يوم القيامة، ولكي يثبّت
استدلاله المزعوم نقل من كتاب «الأنوار
الإلهية» للمحدث المرحوم الشيخ عباس القمي
خلال روايته لهذه الزيارة عن الإمام على النقي (أي الإمام الهادي عليه
السلام)
كلامَ العلّامة المجلسي بشأن هذه الزيارة الجامعة الكبيرة الذي قال فيه: «أقول إنما بسطتُ
الكلامَ في شرح تلك الزيارة قليلاً وإن لم أستوف حقها حذراً من الإطالة لأنها أصحُّ
الزياراتِ سنداً وأعمُّها مورداً وأفصحها لفظاً وأبلغها معنىً وأعلاها
شأناً!!»(71).
لذا
سنقوم في البدء بتمحيص سند حديث هذه «الزيارة
الجامعة الكبيرة» الذي ادعى آية الله (!)
أبو الفضل النبوي صحته، ثم نبحث في فقرات متن الزيارة:
أولاً
لو فرضنا أن هذه الزيارة - كما تفضل العلّامة المجلسي - أصحّ جميع الزيارات فإن هذا
لن يعنى شيئاً لأنه لا توجد بين الزيارات أي زيارة واحدة صحيحة حتى تكون هذه أصحها،
لأن جميعها إما لا سند له أو سنده ضعيف ومخدوش، فجميع أسانيد أحاديث الزيارات
ومقادير ثوابها، لا تخلو من رواة غلاة فاسدي العقيدة أو ضعفاء أو كذابين مما
سيلاحظه القارئ عن قريبٍ إن شاء الله.
روى
العلّامة المجلسي في المجلد 22 من بحار الأنوار (أو المجلد 99/ص 127من الطبعة
الجديدة) تلك الزيارة بسنده عن: [«الدقاق» و«السنائي» و«الوراق» جميعاً عن «الأسدي» عن
«البرمكي» عن «النخعي» عن
حضرة الإمام علي بن محمد النقيّ (أي الإمام الهادي) عليه
السلام]:
وفيما
يلي بيان حال رجال السند:
أ)
قال النجاشي عن «الأسدي»: «محمد بن
جعفر الأسدي كان ثقةً، صحيح الحديث، إلا أنه روى عن الضعفاء... وكان يقول بالجبر
والتشبيه!!».
ب)
ووصفه ابن داوود بمثل تلك الأوصاف وأدرجه في القسم المتعلق بالضعفاء
والمجروحين.
ج)
وأورده المرحوم المامقاني في «تنقيح المقال» (ج2/ص95) في القسم الثاني وقال: «قوله بالجبر والتشبيه فإنه لو كان على حقيقته
لأوجب فسقه بل كفره» ثم شرع في الدفاع عنه
وتطهيره وتعميده!!
وقد
روى الأسدي تلك الزيارة عن البرمكي وهو: «محمد بن إسماعيل بن أحمد بن بشر البرمكي أبو جعفر
المعروف بصاحب الصومعة، ضعيفٌ».
وأورده
الشيخ «طه نجف» في رجاله في زمرة الضعفاء.
والبرمكي
روى الزيارة عن «موسى بن عبد الله
النخعي» وهو شخص مجهول لا أثر له في
كتب الرجال.
وقال
المرحوم المامقاني في «تنقيح المقال» لدى ترجمة «موسى بن عبد الملك»: «إذا أهمله
علماء الرجال فهذا لا يعني قدحه أو ذمه»
وبعد أن طمأن نفسه عن الرجل بتلك العبارة نقل عن الشيخ الصدوق احتماله أن يكون موسى
بن عبد الملك هو موسى بن عبد الله النخعي ذاته وأنه لم يشرب النبيذ في حياته إلا
عندما أحضره الخليفة المتوكل العباسي مع إبراهيم لمجلس القمار فشرب معه الشراب!
وليس لدينا في كتب رجال الحديث إلا نخعيٌّ واحدٌ قال عنه الرضا عليه
السلام:
«اخرج عني لعنك الله ولعن من حدّثك!».
إن
راوي الزيارة الجامعة المتصل بالإمام طبقاً لسند رواية الزيارة التي أوردها الصدوق
في كتابه «عيون أخبار الرضا» هو «موسى بن
عمران النخعي»، ورغم أن هذا الراوي ذُكر في
كتاب «من لا يحضره الفقيه» للصدوق، وفي كتاب «تهذيب الأحكام» للشيخ الطوسي الذي نقل الرواية في الواقع عن «من لا يحضره الفقيه» باسم: «موسى
بن عبد الله النخعي» إلا أن الظاهر أنهما
(أي موسى بن عمران وموسى بن عبد الله) شخص واحد وقد نشأ الاشتباه في كتابة اسمهما
لكون لفظي عبد الله وعمران في رسم الخط الكوفي متطابقان.
هذا
رغم أن كلاً من «موسى بن عمران النخعي» و«موسى بن عبد
الله النخعي» مجهول في كتب الرجال ولكن هناك
قرائن تدل أن الراوي هو في الواقع «موسى بن
عمران النخعي» الذي قالت عنه كتب الرجال ما
يلي:
أ)
موسى بن عمران النخعي بن أخ الحسين بن يزيد الذي وصفته كتب الرجال بأنه من الغلاة
وموسى بن عمران يسند رواياته إلى ابن يزيد، ولما كانت الزيارة الجامعة الكبيرة
مملوءةً غلواً فنسبتها لموسى بن عمران صحيحةٌ.
ب)
الحسين بن يزيد عُدَّ من أصحاب الرضا عليه السلام في حين كان ابن أخيه: موسى بن
عمران معاصراً لحضرة الإمام عليّ الهادي عليه
السلام.
ج)
إن لموسى بن عمران عديدٌ من مثل تلك الأحاديث نجد نماذج عنها في كتاب «كمال الدين وتمام النعمة» للشيخ الصدوق.
وعلى
كل حال فمما لا ريب فيه أن تلك الزيارة من اختلاق ووضع الغلاة والمشركين كما تدل
على ذلك عباراتها وتثبته بأفضل برهان.
ولا
شك أن «موسى بن عمران النخعي» راوي هذه الزيارة الجامعة الكبيرة من الغلاة فرائحة
الغلو تُشْتَمُّ بشدة من معظم رواياته التي جاءت في كتب الأخبار مثل الرواية
التالية التي رواها ذلك الشخص عن عمه الحسين بن يزيد، وأخرجها الصدوق في كتابه
«التوحيد» (ص154، طبع بومبي): «حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله
قال حدثنا محمد بن جعفر الكوفي قال حدثنا موسى بن عمران النخعي الكوفي عن عمه
الحسين بن يزيد عن علي بن الحسين عمن حدثه عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله
عليه
السلام قال:
إن أمير المؤمنين عليه
السلام قال:
أنا علم الله وأنا قلب الله الواعي ولسان الله الناطق وعين الله وجنب الله وأنا
يد الله!».
وإننا
على يقين لا يخالطه ذرة شك أنه لا يمكن لأمير المؤمنين ومولى الموحدين أن يجري مثل
تلك الألفاظ المغالية على لسانه!.
وفي
الكتاب ذاته (ص291) حديث آخر عن نفس ذلك الراوي، تصديقه بمثابة تكذيب نبوة رسول
الله لأنه ينسب إلى رسول الله كلاماً عن طلوع الشمس وغروبها يضحك منه كل تلميذ
مدرسةٍ في المرحلة الابتدائية!!
إن
قراءة مثل هذه الترهات تبين بوضوح أن الغلاة كانوا إما حمقى أو من أسوأ أعداء
الإسلام!.
والخلاصة،
إن رواة تلك الزيارة إما ضعفاء أو مجهولون أو غير موجودين!! فسندها - خلافاً لدعوى
من يصححه - ليس صحيحاً أبداً، وأما قولهم إنها من أصح الزيارات فينطبق عليه مَثَلُ
«الأعور بين عميان»!!.
أما
من ناحية المعنى فربما تكون هذه الزيارة من وجهة نظر الغلاة قمة في البلاغة، لأن
بعض فقراتها تُشتم منه رائحة الشرك والغلو بله الشرك الصريح، ولا يمكن لإمام
ولا حتى لفرد عاديٍّ مؤمن بالله واليوم الآخر وشريعة الإسلام الحقّة أن يجري على
لسانه مثل تلك الجمل معتقداً بمضمونها. فالله تعالى هو القائل: ((فَإِنَّمَا
عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ))
(الرعد/40) والقائل: ((..مَا
عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ...))
(الأنعام/52)، والقائل:
((إِنَّ
إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ))
(الغاشية/25 - 26)، ولكن تلك الزيارة تقول: «إياب الخلق إليكم وحسابهم عليكم»!!
والله
تعالى يقول: ((وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ
رَبِّهَا)) (الزمر/69) ولكن تلك الزيارة تقول:
«أشرقت
الأرض بنوركم»!
فكأن
تلك الفقرات من الزيارة تجعل أئمة الهدى عليهم السلام آلهة العالم وأرباب العالمين
فهل هناك شركٌ أوضح من ذلك؟!
وقد
استشهد آية الله العظمى (!) أبو الفضل النبوي برواية في أصول الكافي/ كتاب التوحيد،
باب النوادر، نَقَلَتْ عن حضرة الصادق عليه
السلام قوله:
«إنَّ
اللهَ خَلَقَنَا وصَوَّرَنا، وجَعَلَنا عَيْنَهُ في عِبَادِهِ وَلِسَانَهُ الناطِقَ
في خَلْقِهِ، ويَدَهُ البَاسِطَةَ عَلَى عِبَادِهِ..!»
وهذه
العبارات تكفي وحدها دليلاً على بطلان هذه الرواية حتى لو فرضنا أن سندها صحيح، لأن
هذا المتن مخالفٌ للقرآن والإيمان ومجافٍ للعقل والوجدان، فكيف إذا كان سندها أيضاً
ضعيفاً متهافتاً، ومن المعلوم أن مجرّد وجود حديث في كتاب «الكافي»
لا يدل بالضرورة على صحته، فكما قلنا سابقاً إنه من أصل 16 ألف حديثٍ ذكرها الكافي،
أقلّ من عُشْرِهَا سَنَدُهُ صحيح.
فلننظر
الآن في سند الرواية الأخيرة:
الراوي
الأول «محمد
بن إسماعيل»:
أورده المامقاني في تنقيح المقال (ج2/ص82) في القسم الثاني واعتبره من المجهولين.
وهذا قد روى حديثه عن «الحسين
بن الحسن»
وهو أيضاً طبقاً لما ذكره المامقاني قي تنقيح المقال (ج1/ص40) مجهول ومهمل.
ثم
هذا الأخير روى حديثه عن «بكر بن
صالح» الذي قال عنه ابن الغضائري: «ضعيف جداً كثير التفرد بالغرائب»!! وقال عنه النجاشي (رجال النجاشي، ص84): «بكر بن صالح الرازي مولى بني ضُبّة ضعيف». وقال عنه العلامة الحلي في الخلاصة(ص208): «ضعيفٌ جداً كثير التفرد بالغرائب». وأورده ابن داوود في القسم الثاني من رجاله المخصص
لطبقة الضعفاء وضعّفه (رجال ابن داوود/ص432). واعتبره في «الوجيزة» ضعيفاً
أو مشتركاً بين الضعيف والمجهول، وأما المامقاني فقال عنه في تنقيح المقال: «يسقط كل رواية لبكر بن صالح».
والأخير
روى الحديث عن «هيثم بن عبد الله» وهو مجهول الحال في كتب الرجال، وهو عن «مروان بن صباح» الذي لا ذكر له ولا أثر في كتب الرجال، وهو الذي وضع
تلك الرواية ولفقها على لسان حضرة الصادق عليه
السلام أو
أن الرواة الذين قبله هم الذين اختلقوا هذا الراوي من أساسه واختلقوا الرواية التي
رووها عنه!!
فهذه
الرواية ساقطة من الاعتبار ومفضوحة الكذب إلى درجة أن العلامة المجلسي حكم بضعفها
في كتابه «مرآة العقول» (ج1/ص96). ورغم كل ذلك استند إليها آية الله النبوي
ليثبت عقيدة باطلة بالاستناد إلى رواية باطلة مكذوبة مُخْتَلَقة بزعم أن عقيدته
التي يبشر بها مستندة إلى الحديث الصحيح! والله يقول: ((وَقُلْ
جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ
زَهُوقاً))
(الإسراء/81).
ثم
أراد حضرة آية الله (!) أبو الفضل النبوي أن يدعم أقاويله برواية أخرى فتحذلق ونقل
حديثاً من كتاب «الخرائج
والجرائح»
للراوندي (ج2/ص622) - وهو كتاب مشحون بأمثال تلك المطالب الباطلة - جاء
فيها:
«ومنها أن
داود الرقي قال كنت عند أبي عبد الله عليه
السلام فقال لي: ما لي أرى
لونك متغيراً؟ قلت: غيّره دَيْنٌ فادحٌ عظيمٌ وقد هممت بركوب البحر إلى السند
لإتيان أخي فلان! قال: إذا شئت فافعل. قلت: تروعني عنه أهوال البحر وزلازله. فقال:
يا داود! إن الذي يحفظك في البر هو حافظك في البحر، يا داود! لولا اسمي وروحي
لما اطردت الأنهار ولا أينعت الثمار ولا اخضرَّت الأشجار!.».
هذا مع أن
«داود بن كثير الرقي» هذا قال عنه المامقاني في كتابه «تنقيح المقال» - الذي يبدو وكأنه ما أُلف إلا ليكون غُسْل تعميدٍ
لتطهير كل الرجال سيئي السمعة! - ومع ذلك قال عنه: «قال بن الغضائري: داوود بن كثير الرقي مولى بني
أسد يروي عن أبي عبد الله عليه
السلام،
إنه كان فاسد المذهب ضعيف الرواية لا يُلتفت إليه».
وقد
أيَّد المرحوم النجاشي مقولة المرحوم الغضائري ونقل عن أحمد بن عبد الواحد قوله:
«داوود بن كثير الرقي
يُكَنَّى أبا خالد وهو يُكَنَّى أبا سليمان، ضعيف جداً والغلاة يروون
عنه» قلت:
ويبدو أن آية الله صاحبنا واحدٌ منهم!
وقال أحمد
بن عبد الواحد: «قَلَّ ما رأيت منه حديثاً
سديداً» (رجال
النجاشي/ص119).
وقال أبو
عمرو الكشي: «ويذكر الغلاة إنه كان من
أركانهم، ويُروى عنه المناكير من الغلو وتُنسب إليه أقوالهم».
وأورده ابن
داوود في رجاله في القسم الثاني الخاصّ بطبقة الضعفاء والمجهولين (ص452)
واعتبره فاسد المذهب، وكذلك اعتبره مير مصطفى في «نقد الرجال» «ضعيفاً جداً
وأن الغلاة يروون عنه» و...و...الخ
أجل مثل
هؤلاء الغلاة الفاسدين هم مستند غلاة زماننا الذين يستخرجون من جُمَلِهِم المكذوبة
المنكرة المغالية مئة شرك صريح ويدعون الناس إليه!.
لنأتِ الآن إلى سائر جمل الزيارة الجامعة
التي استند إليها آية الله النبوي في كتابه ليثبت ضلالاته:
أحد فقرات
الزيارات التي احتج بها آية الله العظمى (!) هذا هي العبارة التي نقلناها مراراً
خطاباً لأمير المؤمنين عليه
السلام:
«السلام
عليك يا عين الله الناظرة ويده الباسطة»،
وهذه الجملة ذكرها العلامة المجلسي في موضعين من «بحار الأنوار» في زيارة أمير المؤمنين: الموضع الأول في الزيارة
التي نقلها العلامة المجلسي عن المرحوم الشيخ المفيد وتابعه في لفظها قائلاً: «إنه أسبق وأوثق!»، فأوردها بدون سند عن الإمام الصادق عليه
السلام كما
يلي، قال:
«أقول
أورد الشيخ المفيد رحمه الله هذه الزيارة بأدنى تغيير مع زيادات فنتبع لفظه لأنه
أسبق وأوثق قال رحمه الله تتمة في ذكر زيارة مولانا أبي الحسن أمير المؤمنين
وأبي عبد الله الحسين صلوات الله عليهما جميعاً وهي مروية عن أبي عبد الله
عليه
السلام:
إذا أردت ذلك فقف متوجهاً إلى قبر أمير المؤمنين صلوات الله عليه وقل:... السلام
على مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صاحب السوابق والمناقب والنجدة...
(إلى
قوله): السلام عليك يا أمير المؤمنين ويعسوب الدين وقائد الغر المحجلين
السلام عليك يا باب الله السلام عليك يا عين الله الناظرة ويده الباسطة وأذنه
الواعية وحكمته البالغة ونعمته السابغة السلام على قسيم الجنة والنار السلام
على نعمة الله على الأبرار ونقمته على الفجار... ثم انكبْ على القبر
فقَبِّلْهُ وقُلْ: سلام الله وسلام ملائكته المقربين والمسلمين لك
بقلوبهم يا أمير المؤمنين.... إلى آخر الحديث بطوله..»(72).
والموضع
الآخر في الزيارة الخاصة بيوم 17 ربيع الأول أي يوم ولادة رسول الله (صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ)
والتي نقلها أيضاً عن الشيخ المفيد وآخرين بلا سندٍ أيضاً عن حضرة الصادق
عليه
السلام كما
يلي، قال:
«ومنها
زيارة يوم السابع عشر من شهر ربيع الأول وهو يوم مولد النبي (صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ)..
قال الشيخ المفيد والشهيد والسيد ابن طاوس في كتاب الإقبال رضي الله عنهم أجمعين
رُوِيَ أن جعفر بن محمد الصادق عليه
السلام زار
أمير المؤمنين صلوات الله عليه في هذا اليوم بهذه الزيارة وعلَّمها لمحمد بن مسلم
الثقفي فقال:
إذا
أتيتَ مشهدَ أمير المؤمنين صلوات الله عليه فاغتسل للزيارة والبس أنظف ثيابك وشم
شيئا من الطيب وعليك السكينة والوقار فإذا وصلت إلى باب السلام فاستقبل القبلة وكبر
الله ثلاثين تكبيرة وقل السلام على رسول الله السلام على خيرة الله السلام على
البشير النذير السراج المنير ورحمة الله وبركاته السلام على الطهر الطاهر السلام
على العلم الزاهر السلام على المنصور المؤيد السلام على أبي القاسم محمد ورحمة الله
وبركاته السلام على أنبياء الله المرسلين وعباد الله الصالحين السلام على ملائكة
الله الحافين بهذا الحرم وبهذا الضريح اللائذين به.
ثم
ادن من القبر وقل: السلام عليك يا وصي الأوصياء السلام عليك يا عماد الأتقياء
السلام عليك يا ولي الأولياء... السلام عليك يا صاحب الحوض وحامل اللواء السلام
عليك يا قسيم الجنة.....
(حتى
يصل بعد زيارة طويلة من عدة صفحات إلى أن يقول):
ثم
انكبّ عَلى القَبْر فَقَبِّلْهُ وقُلْ أشْهَدُ أنَّكَ تَسْمَعُ كَلامِي وَتَشْهَدُ
مَقَامِي...
[إلى آخر الزيارة..].»(73)
وهذه
الفقرة الأخيرة بالذات من الفقرات التي أكثر آية الله النبوي الاستناد إليها
والاستشهاد بها، خاصَّةً أنه قد جاء في بعض النسخ بعد جملة «ثم انكَبْ على القبر فَقَبِّلْهُ» كلمة: «وَقَالَ»
بدلاً من كلمة «وَقُلْ» أي بصيغة فعل الماضي بدلا من فعل الأمر، مما يجعل
العبارة السابقة كلها تُقْرَأُ على أنها من فعل الإمام الصادق عليه
السلام نفسه
أي «ثم اِنْكَبَّ على القبرِ
فَقَـبَّلَهُ وقالَ: أشْهَدُ أنَّكَ تَسْمَعُ كَلامِي وَتَشْهَدُ
مَقَامِي!».
وسواءً
كان الإمام الصادق هو الذي أدى الزيارة بالصورة المذكورة أو أنه علّمها لمحمد بن
مسلم أو غيره وأمره بأدائها بتلك الصورة، فلا ريب أنها رواية موضوعة افتراها الغلاة
الدجّالون ونسبوها إلى حضرة الصادق عليه
السلام،
هذا رغم أن الشيخ المفيد والسيد ابن طاووس وأمثالهما رووها، والدليل على ما نقول ما
يلي:
أولاً:
كما لاحظنا لا يوجد لتلك الروايات سند إلى الإمام الصادق عليه
السلام أصلاً
بل نُسِبَتْ إليه بدون سند بعباره (وَرُوِيَ)، فإذا كانت الزيارات التي لها
سند ساقطة لأن في معظم أسانيدها ضعفاء وغلاة فما بالك بتلك التي ليس لها سندٌ
أصلاً؟
ثانياً:
إن قصة مجيء الإمام الصادق عليه
السلام لزيارة
أمير المؤمنين عليه
السلام ليست
مُسَلَّمة تاريخياً كما سيأتي بيانه قريباً.
ثالثاً:
إن هناك اختلافات كثيرة في قصة مجيء حضرة الصادق عليه
السلام إلى
الكوفة في عهد الخليفة أبو جعفر المنصور الدوانيقي لزيارة أمير المؤمنين علي
عليه
السلام،
فمرةً تنسب القصة إلى «صفوان
الجمّال» وأخرى إلى «يونس بن ظبيان» وأحياناً تنسب إلى «المعلّى بن خنيس» الذي قتل على يد داوود بن علي عام 132 هـ ق أي قبل
أن يصل أبو جعفر المنصور إلى مسند الخلافة!.
وبعض
هؤلاء الرواة مثل «يونس بن ظبيان» و«المعلّى بن
خنيس» حالهم وخيم إلى درجة أنهم لو شهدوا
على أمر واضح وضوح النهار لما أمكن الثقة بشهادتهم، وقد سبق وبينا حال الأول منهما
وسيأتي بيان حال الثاني أي «المعلّى بن
خنيس» (74)
إن
شاء الله.
رابعاً:
إن قصة زيارة الصادق عليه
السلام لقبر
أمير المؤمنين عليه
السلام لا
ذكر لها في الكتب الموثوقة والمشهورة، لذا نجد المرحوم المجلسي يرويها في المجلد 22
من بحار الأنوار بالصورة التالية: «[فَرْحَةُ
الغَرِيّ(75)]
ذكر الفقيه صفي الدين ابن معدان في مزار فقيهنا محمد بن علي بن الفضل وكان ثقةً
عيناً صحيح الاعتقاد قال: أخذتُ هذه الزيارة من كتب عمومتي! وكانت بخط عمي الحسين
بن الفضل، قال: حدثني الحسين بن محمد بن مصعب وأخبرني زيد بن علي بن محمد بن يعقوب
عن الحسين بن محمد بن مصعب عن ابن أبي الخطاب عن صفوان بن يحيى عن صفوان الجمال
أنه قال: خرجت مع الصادق عليه
السلام من
المدينة أريد الكوفة فلما جزنا بالحيرة قال: يا صفوان! قلت: لبيك يا ابن رسول الله!
قال: تخرج المطايا إلى القائم وحد الطريق إلى الغري. قال صفوان:فلما صرنا إلى قائم
الغري أخرج رشاء معه دقيقاً قد عمل من الكنبار ثم أبعد من القائم مغرباً خطى كثيرة
ثم مد ذلك الرشاء حتى إذا انتهى إلى آخره وقف ثم ضرب بيده إلى الأرض فأخرج منها
كفاً من تراب فشمه ملياً، ثم أقبل يمشي حتى وقف على موضع القبر الآن، ثم ضرب بيده
المباركة إلى التربة فقبض منها قبضة ثم شمَّها ثم شهق شهقة حتى ظننت أنه فارق
الدنيا، فلما أفاق قال: هاهنا والله مشهد أمير المؤمنين عليه
السلام»(76).
فمثل
هذه الرواية المنقولة عن كتابٍ مجهول لا يمكن أن تكون موثوقةً معتمدةً لدى العام
والخاص!.
وكذلك نجد في كتاب «كامل الزيارات» (ص 37) الرواية
التالية: «وعنه عن محمد بن
الحسين عن الحجال عن صفوان بن مهران عن أبي عبد الله عليه
السلام قال: سألته عن موضع
قبر أمير المؤمنين عليه
السلام؟ قال: فوصف لي موضعه
حيث دكادك الميل، قال: فأتيته فصليت عنده، ثم عدت إلى أبي عبد الله
عليه
السلام من قابل، فأخبرته
بذهابي وصلاتي عنده، فقال: أصبتَ. فَمَكَثْتُ عشرين سنةً أصلِّي
عنده!»
فإذا
كان صفوان قد ذهب مع الإمام الصادق إلى النجف ورأى القبر - كما في الرواية قبل
الأخيرة - لم يكن هناك داعٍ أن يكتفي مدة عشرين عاماً بتلك العلامة التي أعطاها
إياه حضرة الإمام ويعتبرها دليلاً على صحة اكتشافه؟
ولما
كان الإمام الصادق عليه
السلام -
كما هو معروف بالتاريخ - لم يأت إلى بغداد إلا في عهد خلافة أبي جعفر المنصور الذي
وَلِيَ الخلافة عام 136 هـ ق، فإذا فرضنا أن الخليفة أحضر إليه حضرة الصادق في أول
سنة من خلافته (مع أن الأمر ليس كذلك، بل الصادق جاء إلى بغداد بعد فترة من خلافة
المنصور) ونظراً إلى أن وفاة الإمام كانت عام 148هـ ق ففي هذه الحال الفاصل الزمني
بين قدوم الإمام إلى الكوفة ووفاته أكثر أيضاً من 12 سنة، مع أن صفوان كان يزور تلك
البقعة التي بينها له الإمام عشرين عاماً أي ثمان سنوات إضافية أيضاً بعد زيارة
صفوان لها مع الإمام، فإذن قصة مجيء الإمام الصادق مع صفوان كذبٌ من
أساسها.
خامساً:
لقد كان موضع قبر أمير المؤمنين عليه السلام حتى زمان الإمام الصادق أمراً
مختَلَفاً فيه بين الشيعة، فبعضهم كان يعتقد أن عليّاً دُفن في مسجد الكوفة، وآخرون
أنه دفن في قصر الإمارة، في حين كان فريق ثالثٌ يرى أنه دُفن في بيته، وكان فريقٌ
رابعٌ يرى ما تقول به رواية صفوان. وهناك روايات عديدة تبين وجود هذا الاختلاف في
موضع قبره عليه
السلام بين الشيعة، منها
مثلاً الرواية
التالية التي رواها «عبد الله بن
جعفرالحِمْيَرِيّ»(77)
في كتابه «قرب الإسناد»:
«عن
ابن عيسى عن البزنطي قال سألت الرضا عليه
السلام عن
قبر أمير المؤمنين؟ فقال: ما سمعت من أشياخك؟ فقلت له: حدثنا صفوان بن مهران عن جدك
أنه دفن بنجف الكوفة، ورواه بعض أصحابنا عن يونس بن ظبيان بمثل هذا. فقال (الإمام
الرضا عليه
السلام):
سمعتُ منه يذكر أنه دفن في مسجدكم بالكوفة. فقلت له: جعلت فداك! أيش لمن صلى
فيه من الفضل؟ فقال: كان جعفر (الصادق) عليه
السلام يقول:
له من الفضل ثلاث مرار هكذا وهكذا...
الحديث»(78).
قلتُ:
من هو المراد بالضمير في قول الإمام الرضا «سمعت
منه»؟ يرى بعضهم أن الضمير يرجع إلى جدِّه
الإمام الصادق، لكن هذا بعيدٌ جداً لأن الإمام الرضا ولد عام 148 هـ ق أي في السنة
التي تُوفي فيها الإمام الصادق عليه
السلام أو
قبلها بعام، فكيف تسنى له أن يسمع ذلك منه؟!. لذا الاحتمال الأغلب هو عودة الضمير
إلى «يونس بن ظبيان» المذكور قبل ذلك.
وإليكم
روايةً ثانيةً في هذا الصدد وردت في «كامل
الزيارات» تقول:
«محمد
بن أحمد بن علي بن يعقوب عن علي بن الحسن بن فضال عن أبيه عن الحسن بن الجهم قال:
ذكرت لأبي الحسن (أي الإمام الرضا) عليه
السلام يحيى
بنَ موسى وتعرُّضه لمن يأتي قبر أمير المؤمنين عليه
السلام وأنه
كان ينزل موضعاً كان يقال له الثوية يتنزه إليه ألا وقبر أمير المؤمنين صلوات الله
عليه فوق ذلك قليلاً وهو الموضع الذي روى صفوان الجمال أن أبا عبد الله
عليه
السلام وصفه
له، قال له فيما ذُكِرَ: إذا انتهيت إلى الغري ظهر الكوفة فاجعله خلف ظهرك وتوجه
على نحو النجف وتيامن قليلاً فإذا انتهيت إلى الذكوات البيض والثنية أمامه فذلك قبر
أمير المؤمنين عليه
السلام،
وأنا آتيه كثيراً. ومن أصحابنا من لا يرى ذلك ويقول هو في المسجد وبعضهم يقول هو
في القصر، فأرُدُّ عليهم بأن الله لم يكن ليجعل قبر أمير المؤمنين
عليه
السلام في
القصر في منازل الظالمين ولم يكن يدفن في المسجد وهم يريدون ستره فأينا أَصْوَبُ؟؟
قال: أنْتَ أَصْوَبُ مِنْهُ أَخَذْتَ بقول جعفر بن محمد (الصادق) عليه
السلام،
قال ثم قال لي: يا أبا محمد! ما أرى أحداً من أصحابنا يقول بقولك ولا يذهب
مذهبك! فقلت: له جُعِلْتُ فداك! أما ذلك شيء من الله؟ قال: أجل إن الله يوفق
من يشاء ويؤمِّن عليه فقل ذلك بتوفيق الله واحمده عليه.».
وعلى
أي حال فمن المسلّم تاريخياً أن قبر أمير المؤمنين عليٍّ عليه
السلام لم
يكن معروفاً على وجه الدقة في زمن الإمام الرضا عليه
السلام وبناءً
عليه فتحديد موضع القبر في زمن الإمام الصادق عليه
السلام لا
يمكن أن يكون صحيحاً.
سادساً:
تدل كتب التاريخ الموثوقة والمعتبرة على أن أول من اكتشف قبر أمير المؤمنين عليه
السلام هو الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي كان في رحلة صيد فرأى ذلك المحل فسأل
الفلاحين وأهل بادية النجف عنه فقالوا لقد سمعنا من أبائنا أن قبر أمير المؤمنين
علي عليه السلام هو في موضع ما من هذه البقعة فأمر هارون عندئذٍ أن يحفروا في ذلك
الموضع فاكتشفوا مكان القبر وبنوا عليه ومن الجدير بالذكر أن هارون وَلِيَ الخلافة
عام 170 هـ ق أي بعد حوالي عشرين عاماً من رحلة الإمام الصادق التي كانت عام 148 هـ
ق إضافةً إلى أننا لا نعلم في أي سنة من خلافته اكتشف هارون قبر أمير
المؤمنين؟
وأياً
كانت الإجابة فالمسلّم أنه في زمن حضرة الصادق لم يكن هناك قبر معروف لعليٍّ
عليه
السلام فلا
مجال لأن يأمر الصادق عليه
السلام «محمد
بن مسلم الثقفي» بالذهاب إلى زيارة قبره وأن
يعلّمه آداب الدخول إلى حرمه من باب السلام، هذا مع أن قصة الزيارة التي رواها
المرحوم الشيخ المفيد والآخرون تدل على أن القبر كان له في ذلك الحين عدة أبواب
وأروقة، كما أنه جاء في تلك الروايات أنه أمر مرافقه بالانحناء لتقبيل القبر أو أنه
هو نفسه انحنى وقبله هذا في حين أنه في زمن حضرة الصادق لم يكن هناك قبر أصلاً ولا
دربٌ!! ولأن حبل الكذب قصير فإن رواة قصة تلك الزيارة المزعومة غاب عن ذهنهم أنه في
زمن حضرة الصادق لم يكن هناك لقبر عليٍّ أبوابٌ وفناءٌ وضريحٌ لكي يفعلوا فيه كذا
وكذا!!
والخلاصة،
إن هناك اختلافاً كبيراً في كتب التاريخ حول محل قبر عليٍّ عليه السلام وكيفية دفنه
إلى درجة لا يمكن لأحدٍ أن يجزم على وجه اليقين بأن المرقد الكائن حالياً في النجف
هو قبره حقيقةً.
يقول
الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير في تاريخه «البداية والنهاية» (ج7/ص330): «وما يعتقده كثير من جهلة الروافض من أن قبره بمشهد
النجف فلا دليل على ذلك ولا أصل له، ويقال إنما ذاك قبر المغيرة بن شعبة، حكاه
الخطيب البغدادي عن أبي نعيم الحافظ عن أبي بكر الطلحي، عن محمد بن عبد الله
الحضرمي الحافظ، عن مطر أنه قال: لو علمت الشيعة قبر هذا الذي يعظمونه بالنجف
لرجموه بالحجارة، هذا قبر المغيرة بن شعبة.
قال
الواقدي: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة
قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي الباقر كم كان سن علي يوم قتل؟ قال: ثلاثاً وستين
سنة.
قلت:
أين دفن؟ قال: دفن بالكوفة ليلا وقد غبي عن دفنه، وفي رواية عن جعفر الصادق أنه كان
عمره ثمان وخمسين سنة، وقد قيل إن علياً دُفِنَ قبلي المسجد الجامع من الكوفة. قاله
الواقدي، والمشهور بدار الإمارة.
وقد
حكى الخطيب البغدادي عن أبي نعيم الفضل بن دكين، أن الحسن والحسين حولاه فنقلاه إلى
المدينة فدفناه بالبقيع عند قبر فاطمة، وقيل إنهم لما حملوه على البعير ضل منهم
فأخذته طَيْء يظنُّونه مالاً فلما رأوا أن الذي في الصندوق ميتٌ ولم يعرفوه دفنوا
الصندوق بما فيه فلا يعلم أحدٌ أين قبره، حكاه الخطيب
أيضاً.
وروى
الحافظ ابن عساكر عن الحسن قال: دفنت علياً في حُجْرَةٍ من دور آل
جعدة.
وعن
عبد الملك بن عمير قال: لما حفر خالد بن عبد الله أساس دار ابنه يزيد استخرجوا
شيخاً مدفوناً أبيض الرأس واللحية كأنما دفن بالأمس، فَهَمَّ بإحراقه ثم صرفه الله
عن ذلك، فاستدعى بقباطي فلفه فيها وطيبه وتركه مكانه.
قالوا
وذلك المكان بحذاء باب الوراقين مما يلي قبلة المسجد في بيت اسكاف وما يكاد يقر في
ذلك الموضع أحد إلا انتقل منه.
وعن
جعفر بن محمد الصادق: قال: صُلِّيَ على عليٍّ ليلاً ودُفِنَ بالكوفة وعُمِّيَ موضع
قبره ولكنه عند قصر الإمارة.»
اهـ.
وجاء
في تاريخ «مروج الذهب» للمسعودي (الشيعي) (ج2/ص2): «وقد تنوزع
في موضع قبره؛فمنهم من قال: إنه دفن في مسجد الكوفة، ومنهم من قال: به حمل إلى
المدينة فدفن عند قبر فاطمة، ومنهم من قال: إنه حمل في تابوت على جَمَلٍ، وإن
الجملَ تاه ووقع إلى وادي بطيء، وقد قيل من الوجوه غير ما ذكرنا..».
وفي
«تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (ج1/ص 134 - 135):
«عن
إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة قال سألتُ أبا جعفر محمد بن علي (الباقر): كم كان
سِنُّ عليٍّ يوم قُتِلَ؟ قال: ثلاثاً وستين سنة. قلت: ما كانت صفته؟ قال: رجلٌ آدمُ
شديدُ الأدمةِ، ثقيل العينين عظيمهما، ذو بطن، أصلع، هو إلى القصر أقرب. قلتُ: أين
دفن؟؟ فقال: بالكوفة ليلاً، وَقَدْ عُمِّيَ عَنِّي دَفْنُهُ.»(79).
ثم
في (ج1/ص136) من «تاريخ بغداد»: بسنده عن أحمد بن عيسى العلوي قال حدثني أبي عن
أبيه عن جده «عن الحسن بن علي قال: دفنتُ
أبي عليَّ بن أبي طالب في حجلة أو قال في حجرة من دور آل جعدة بن
هبيرة».
ثم
في (ج1/ص137) منه أيضاً: «...عن أبي قلابة
الرقاشي قال نبأنا الحسن بن محمد النخعي قال جاء رجل إلى شريك فقال: أين قبر
علي بن أبي طالب؟؟ فأعرض عنه حتى سأله ثلاث مرات! فقال له في الرابعة: نقله والله
الحسن بن علي إلى المدينة!. هذا
لفظ حديث البغوي قال وقال عبد الملك: وكنت عند أبي نعيم فمرَّ قوم على حمير، قلت:
أين يذهب هؤلاء؟ قال: يأتون إلى قبر علي بن أبي طالب، فالتفت إليَّ أبو نعيم فقال:
كذبوا! نَقَلَهُ الحسنُ ابنُهُ إلى المدينة!».
وقال
الخطيب البغدادي بعد ذلك أيضاً (في الصفحة 138): «حكى لنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ قال
سمعت أبا بكر الطلحي يذكر أن أبا جعفر الحضرمي مطينا كان ينكر أن يكون القبر المزور
بظاهر الكوفة عبر علي بن أبي طالب عليه السلام، وكان يقول: لو عَلِمَتِ الرافضةُ
قبرَ مَنْ هذا لَرَجَمَتْهُ بالحِجَارَةِ، هذا قَبْرُ المغيرةِ بنِ
شُعْبَة!».
وفي
طبقات ابن سعد (ج3/38): «دُفن عليٌّ بالكوفة
عند مسجد الجماعة».
ليس
قصدنا هنا أن نؤيد هذه الرواية أو تلك أو ندحض هذا الخبر أو ذاك، وإنما عرضنا ذلك
لبيان بطلان بعض عبارات وفقرات «الزيارة
الجامعة الكبيرة»، ففي الوقت الذي لم يكن
فيه قبر أمير المؤمنين عليه السلام معلوماً على وجه التحديد بل كان موضع اختلاف
شديد، كيف جاءت تلك الفقرات على لسان الإمام؟ ومن الطريف أنه في كتاب «فَرْحَةُ الغَرِىّ» لابن طاووس(80)
خلاف ذلك عن محمد بن مسلم الثقفي حيث جاء أنه دخل على الصادق عليه
السلام هو
وسليمان بن خالد وسألاه عن قبر أمير المؤمنين فأعطاهما الإمام علاماتٍ فذهبا
وتوصَّلا إلى الأثر بواسطة تلك العلامات!.
إذن
كل تلك الفقرات الواردة في الزيارات موضوعة ولا يمكن لإمامٍ أن يخاطب علياً فيقول
له (يا عين الله النظرة) لكي يقدم مستمسكاً للغلاة وعقائدهم.
يُضَاف
إلى ما ذكر أن في تلك الزيارات، خاصَّةً «الزيارة الجامعة الكبيرة» فقراتٌ يشهد العقل والوجدان ببطلانها وتدل السيرة
والتاريخ على كذبها مثل: «السلام عليك يا من
خاطب الثعبان وذئب الفلاة» أو جملة «السلام عليك يا من رُدت له الشمس حامي شمعون
الصفا».
قلت:
لعلّ الجملة الأولى إشارة إلى قصة وردت في كتاب «مدينة المعاجز» للسيد هاشم البحراني (توفي 1107 هـ ق) - وهو من
الكتب المحشوة بالخرافات - تفيد أن ثعباناً عظيماً مخيفاً دخل الكوفة زمن خلافة
أمير المؤمنين علي عليه
السلام وكلم أمير المؤمنين وتكرر هذا الدخول والخروج والكلام أمام الناس خمس
مرات... الخ.
وأقول
فيها الصدد: أليس من الغريب أن ثعبانَ موسى الذي لم يظهر إلا ثلاث مرات كما يَنُصُّ
عليه صريح القرآن (حيث ظهر أول مرة لسيدنا موسى عليه السلام وحده في الطور، ثم ظهر
أخرى أمام فرعون وملئه لإثبات نبوة موسى عليه
السلام،
وأخيراً ظهر أمام فرعون والسحرة والناس) ومع ذلك أحدث كل تلك الضجة في الدنيا وأقام
عرش فرعون وأقعده، حتى آل ذلك في النهاية إلى غرق فرعون وزوال ملكه، ولكن ثعبان
الكوفة الذي تكلم كل ذلك الكلام بالإضافة إلى ظهوره خمس مرات أمام الناس، لم يخبر
بقصته أحد سوى فردٍ واحد من الغلاة الوضَّاعين للحديث، حقاً إنها لمعجزة طريفة!!.
ومن
فقرات تلك الزيارة: «السلام عليك يا من
رُدَّت له الشمس!!»
وفيها
إشارة إلى قصة استدلَّ بها الغلاة على تصرف أمير المؤمنين عليه
السلام في
الكون والمكان وأطنبوا في نقلها ودندنوا فيها في مجالسهم ومحافلهم، مع أن العلم
والحس والعقل والتاريخ كلها تشهد باستحالتها وكذبها.
إن
الإيمان بمثل تلك الأساطير في زماننا يؤدي إلى السخرية من عقول المؤمنين والاستهزاء
بالدين المبين، وربما أدى لدى البعض إلى إنكار سائر فضائل أمير المؤمنين
عليه
السلام الحقيقية
الواقعية، ورغم تلك المخاطر من النادر أن نجد شاعراً من المداحين الجاهلين - الذين
كثيراً ما يختلقون مناقب لحضرة أمير المؤمنين من عند أنفسهم - لا يشير إلى
منقبة ردّ الشمس في شعره أو نثره!.
لذا
من الجدير أن ننقل تلك القصة من أفضل صحاح الشيعة وأكثرها ثقةً لنمحِّصها
ونحقِّقها:
يروي
الكليني في الكافي فيقول: «عِدَّةٌ
مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عُمَرَ
بْنِ الكافي َعِيدٍ عَنِ الْحسَنِ بْنِ صَدَقَةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ مُوسَى قَالَ
دَخَلْتُ أَنَا وأَبُو عَبْدِ الله عليه
السلام مَسْجِدَ الْفَضِيخِ
فَقَالَ يَا عَمَّارُ تَرَى هَذِهِ الْوَهْدَةَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ كَانَتِ
امْرَأَةُ جَعْفَرٍ التي خَلَفَ عَلَيْهَا أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عليه
السلام قَاعِدَةً فِي هَذَا
المَوْضِعِ ومَعَهَا ابْنَاهَا مِنْ جَعْفَرٍ فَبَكَتْ فَقَالَ لَهَا ابْنَاهَا مَا
يُبْكِيكِ يَا أُمَّهْ قَالَتْ بَكَيْتُ لِأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عليه
السلام فَقَالَا لَهَا
تَبْكِينَ لِأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ ولَا تَبْكِينَ لِأَبِينَا قَالَتْ لَيْسَ هَذَا
هَكَذَا ولَكِنْ ذَكَرْتُ حَدِيثاً حَدَّثَنِي بِهِ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ
عليه
السلام فِي هَذَا المَوْضِعِ
فَأَبْكَانِي قَالَا ومَا هُوَ قَالَتْ كُنْتُ أَنَا وأَمِيرُ المُؤْمِنِينَ فِي
هَذَا المَسْجِدِ فَقَالَ لِي: تَرَيْنَ هَذِهِ الْوَهْدَةَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ
كُنْتُ أَنَا ورَسُولُ الله صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ قَاعِدَيْنِ فِيهَا
إِذْ وَضَعَ رَأْسَهُ فِي حَجْرِي ثُمَّ خَفَقَ حَتَّى غَطَّ وحَضَرَتْ صَلَاةُ
الْعَصْرِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُحَرِّكَ رَأْسَهُ عَنْ فَخِذِي فَأَكُونَ قَدْ آذَيْتُ
رَسُولَ الله صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ حَتَّى ذَهَبَ
الْوَقْتُ وفَاتَتْ فَانْتَبَهَ رَسُولُ الله صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ
صَلَّيْتَ قُلْتُ: لَا قَالَ؛: ولِمَ ذَلِكَ قُلْتُ: كَرِهْتُ أَنْ أُوذِيَكَ
قَالَ: فَقَامَ واسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ومَدَّ يَدَيْهِ كِلْتَيْهِمَا وقَالَ:
اللهمَّ رُدَّ الشَّمْسَ إِلَى وَقْتِهَا حَتَّى يُصَلِّيَ عَلِيٌّ فَرَجَعَتِ
الشَّمْسُ إِلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ حَتَّى صَلَّيْتُ الْعَصْرَ ثُمَّ انْقَضَّتْ
انْقِضَاضَ الْكَوْكَبِ»(81).
فأقول: إن
هذه الرواية مخدوشة سندا ً لما يلي:
أ) راويها
الأول «سهل بن زياد» أورده الشيخ الطوسي في كتابه «الفهرست»
وقال عنه في كتابه «الاستبصار»: «ضعيف جداً
عند نقّاد الأخبار». كما اعتبره النجاشي في
رجاله ضعيفاً وغير ثقة، وقال إن محمد بن عيسى عليه الرحمة شهد عليه بالغلو واعتبره
كذاباً وأخرجه من قم وأظهر البراءة منه ونهى الناس عن سماع حديثه أو الرواية
عنه.
وقال عنه
الغضائري: «سهل بن زياد أبو سعيد الأدمي
الرازي كان ضعيفاً جداً فاسد الرواية والدين»، وقال كذلك: «يروي المراسيل ويعتمد المجاهيل».
واعتبره
الفضل بن شاذان أحمقاً، وهكذا جرحه كل علماء الرجال.
فإذا عرفنا
حال هذا الراوي الأول لهذا الحديث أصبحنا في غنى عن معرفة حال سائر رواة سنده، إلا
أن الذين ينطبق عليهم قوله تعالى: ((وَأُشْرِبُواْ
فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ))
(البقرة/93) ليس من السهل عليهم أن ينفكوا عن الإيمان بخرافة طالما اعتقدوا صحتها،
لذا إكمالاً للحجة سنبين حال سائر رفاق وأساتيذ ذلك الراوي الأول ليظهر أمامنا
جلياً صدق قول الله تعالى: ((وإِنَّ
الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ))
(الجاثية/19)،
فنقول:
ب) الراوي
الذي نقل عنه سهل بن زياد هو مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ الذي قال عنه المامقاني
في تنقيح المقال (ج3/ص254): إنه مجهول وضعيف.
ج) والراوي
الآخر في السند «عمّار بن موسى
الساباطي» وصفه المامقاني في تنقيح المقال
(ج2/ص318) بأنه فطحيّ المذهب.
وقال كاشف
الرموز: (عمار فطحي لا أعمل على روايته) وقال الشيخ الطوسي بشأنه: «إن عمار الساباطي ضعيف فاسد المذهب لا يُعمل على
ما يُختص بروايته».
واعتبره
صاحب التكملة فطحياً ملعوناً ومن الكلاب الممطورة!.
نعم! هؤلاء
هم رواة حديث ردّ الشمس!
فليت شعري
أي سياسة اختلقت تلك الفقرات وأدرجتها ضمن زيارةٍ نسبتها إلى حضرة الإمام
الصادق
عليه السلام ؟
وحثت الناس على قراءتها صباح مساء أمام القبور المطهرة للأئمة سلام الله عليهم؟،
الله وحده العالم!
أما
ما نعلمه نحن فهو أن نتيجة مثل هذه الأوهام والخرافات والأكاذيب الموضوعة التي شاعت
بين الناس هي انصراف الناس عن الخالق إلى الخلق وعن التوحيد إلى الشرك، وإعطاء
مبررٍ لأعداء الدين للسخرية منه والاستخفاف بدين الإسلام المبين وأحكامه، وفي
النهاية بثّ بذور الشك في أذهان العقلاء الأذكياء تجاه حقائق
الدين.
ولا
شك أنه إذا لم يكن أعداء الإسلام وراء بثّ مثل تلك الخرافات فإنهم كانوا مسرورين من
انتشارها لأن معظم أهدافهم يتحقق بانتشار مثل تلك الأوهام لأنها تشوه صورة الإسلام
وتضعفها أمام أنظار العقلاء إضافة إلى زرعها الغرور في نفوس الجاهلين وتجرئتهم على
مقررات الشرع والفساد، فيفعلون في الإسلام - دون أن يشعروا - ما يفعله أعداء الدين
فيه.
+
+
+
إن
الاعتقاد ببقاء الأموات وحياتهم بعد موتهم، بغض النظر عن أن هذا البقاء هو للروح
فقط أم للجسم والروح، اعتقادٌ عريقٌ لدى أغلب - إن لم يكن جميع - الأمم السالفة
والقرون الماضية، ومن هنا كانت الشعوب القديمة تمارس طقوساً خاصةً عند دفن موتاها
تتصل بهذا الاعتقاد، ومن جملة ذلك أن بعض الشعوب كانت تضع إلى جانب الميت في حفرته
تحت الأرض بعض الأطعمة الضرورية ومصباحاً والأشياء التي كان يحبُّها الميِّتُ حالَ
حياته! (82).
يقول «جان ناس»
في كتابه «تاريخ جامع اَديان» (أي التاريخ الجامع للأديان): «يعتقد الأقوام البدائيّون أن السماء عالَـمٌ حيٌّ مثل
عالم الأرض فيها الأشجار والأنهار وهناك تعيش أرواح البشر...... (إلى قوله):
ويستطيع الأموات في أغلب الأوقات أن يأتوا إلى الأرض ويتجولوا فيها ويلتقوا أثناء
النوم بالبشر، ولما كان الأمر كذلك فلا بد من إعداد الطعام لذلك الميت الزائر ووضعه
على مزاره وإشعال الشموع ولو لم يفعلوا ذلك له فإن روح ذلك الميت ستغضب وقد تؤذي
الأحياء!» (تاريخ جامع اَديان، ص22).
ويقول
في الصفحة 26 من هذا الكتاب: «وكان الرومان
القدماء يعتقدون بعبادة أرواح الأسلاف العظماء».
ويقول
في الصفحة 95: «وكان الآريون القدماء يجلّون
أرواح الأجداد إلى حد الحمد والثناء».
ويكتب
في الصفحة 150: «كان هناك اعتقاد بأرواح الأسلاف
واحترام شديد لأرواح الآباء والأجداد لدى عامة الشعوب الطورانية. كما أن بعض
الأديان كالبرهمية في الهند والبوذية في الصين واليابان كانت تمارس طقوساً أكثر
تجاه أرواح الأسلاف الراحلين، إلى حد أنه كانت هناك فرقةٌ في الهند تحمل أرملة
الميت بزينتها إلى جانب جثمان زوجها وتحرقهما سوية!! كما كانت بعض الشعوب تقطع رقاب
إماء وعبيد الميت بعد وفاته! لكي ينتقلوا معه إلى تلك الدار فيساعدوه ويخدموه.».
ومن
أراد تفصيل هذه العقائد فليرجع إلى كتب الملل والنحل.
وفي
عصر الجاهلية قبل الإسلام كان لدى العرب اعتقادات عجيبة بالأرواح، فكانوا يعتبرون
إقبالها على الأحياء أو إعراضها عنهم ودعائها لهم أو لعنها لهم مؤثر في الأحياء لذا
كانوا يخشونها ويهابونها دائماً.
وقد
ظهر دين الإسلام، آخرُ الأديان الإلهية وأكملُها، في زمنٍ كان العالم غارقاً فيه في
الشرك والوثنية والجهل والخرافات، لذا نبذ منذ يومه الأول كل السنن والأعمال التي
فيها رائحة شرك أي التي تصرف انتباه الناس عن الله وتلفتهم نحو الانشغال بغيره،
حفاظاً من الإسلام على صفاء التوحيد ونقائه، لكي لا يمارس الناس أي خضوعٍ ولا
يظهرون أي حاجةٍ لأي مخلوقٍ، بل يكون خضوعهم وفقرهم خالصاً لله وحده، ولا يرون لأي
كائنٍ سوى الله عز وجل أي تأثير في تدبير أمور العالم وتقدير مصائرهم، وبالتالي لا
يرون أحداً في الوجود يستحق العبادة سوى الله وحده، وهذا هو مفاد شعار الإسلام
الأول، والكلمة الطيبة التي بعث بها جميع الأنبياء: (لا إله إلا
الله).
ومن
جملة ذلك أنه نهى في بداية الدعوة عن زيارة الأموات رغم أن زيارتهم لا تخلو من
حكم وفوائد لكنه منع منها حفاظاً على حريم التوحيد وترسيخاً له فقال رسول الله
صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إني
نهيتكم عن زيارة القبور» وذلك لأنه لو سمح
بها في بداية الدعوة لاستمرت عادات وسنن الجاهلية ولكان تقدّم عقيدة التوحيد في
قلوبٍ مشوبةٍ بتعظيم الأموات أمراً في غاية الصعوبة. ولكن بعد أن ضربت شجرة التوحيد
أطنابها في النفوس ببركة تعاليم الإسلام المتواصلة حول التوحيد وبيانات القرآن
وآياته المتنوعة حوله،وأصبحت شجرة التوحيد وعقيدته في مأمن من آفات الشرك عند ذلك
قال (صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ):
«ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة» وفي رواية «فإنها تذكّركم الموت» والأمر بعد النهي يدل على الإباحة كما يقول علماء
أصول الفقه.
وقد
روى المرحوم الشهيد الأول في كتاب الذكرى روايةً تقول: «إن عائشة زارت قبر أخيها عبد الرحمن فقيل لها قد
نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ عن زيارة القبور، فقالت: نهى
ثم أمر بزيارتها».
وهذا
إن دلّ على شيء فإنه يدل على أن نهي رسول الله الابتدائي عن زيارة القبور بقي
شائعاً مدة أربعين عاماً ونيِّف جعلت بعض الناس يستنكر عمل عائشة رغم
مشروعيته.
ويدل
على ذلك أيضاً ما رواه «ابن بطّال» عن «الشعبيّ» من قوله: «لولا أن رسول الله نهى
عن زيارة القبور لزرت قبر النبي (أو قبر ابنتي)»(83)
وكذلك
ما رواه عبد الرزاق الصنعاني الشيعي في كتابه «المصنف»
(ج3/ص569) الذي يعد من أقدم كتب الحديث: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ
وَسَلَّمَ قال: «من زار القبور فليس
منّا» ويدل عليه كذلك ما سبق وأوردناه في
المبحث الثاني من هذا الكتاب من نهي الحسن المثنى بن الحسن المجتبى، ونهي حضرة زين
العابدين - عليهما السلام - الناسَ من القدوم خصيصاً إلى حجرة قبر النبيِّ
(صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ)
للسلام عليه، بالإضافة إلى ما يدل عليه بقاء قبره الشريف متروكاً على حاله مدة قرنٍ
كامل دون أن يتحول إلى مزارٍ يتردَّد الناس إليه.
ولكن
يبدو أن روح الوثنية ومن جملتها عبادة الأموات ممزوجة في طبيعة الإنسان على نحو
يصعب معه إزالتها كلياً إلا بالرياضة المستمرة والتهذيب المتواصل حتى ترسخ في
الإنسان روح التوحيد الخالص، كما قال تعالى: ((وَمَا
يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلّا وَهُم مُّشْرِكُونَ))
(يوسف/106) أي حتى المؤمنين بالله أكثرهم يخلط إيمانه بالشرك، ولهذا نرى أنه بعد
رحلة النبي صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ
واختلاط المسلمين بالشعوب المجاورة في مصر وإيران حيث كان أهالي تلك البلاد يعظمون
أمواتهم ويبنون على قبورهم الأضرحة والأبنية والقباب، سرت روح عبادة الأموات
تدريجياً إلى المسلمين وفي أقل من مئة عام بدأت تعود بعض العقائد الجاهلية الخرافية
وتختلط مع عقائد عبادة الأموات لدى الأمم الأخرى وبدأ سوق عبادة الأموات
يروج.
ورغم
عشرات الأحاديث والروايات عن النبي والأئمة من أهل البيت عليهم السلام في النهي عن
تعمير القبور وتجصيصها وتجديدها والبناء عليها -
التي
ذكرناها بالتفصيل في كتابنا «اَرمغان
آسمان» (285 فما بعد) -
والتي
تدل على مدى نفور الشارع المقدس من موضوع تعظيم القبور وخشيته على المسلمين من
انجرارهم نحو الشرك بسببها حتى قال صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ مقولته
الشهيرة: «اللهم لا تجعل
قبري وثناً يُعْبَد»،
ورغم قيام أمير المؤمنين علي عليه
السلام بإخفاء
قبر زوجته فاطمة - سلام الله عليها - ووصيته عند وفاته بإخفاء موضع قبره، رغم كل
ذلك لم يمضِ قرنٌ من الزمن إلا وانتشرت مئات القباب والأضرحة ذات الزينات العجيبة
في أطراف وأكناف البلدان الإسلامية على قبور الأئمة والصالحين وصُرفت لتشييدها
والحفاظ عليها أوقافٌ ونذوراتٌ لا حصر لها، إلى الحد الذي ادّعى فيه أحد المتصدِّين
لأمور الأوقاف في بلدنا اليوم أن ما يزيد على ربع الأملاك الوقفية يُصرف على
العتبات والمراقد أي على قبور الأموات! (84)
وقد
وصل الإسراف والتبذير في هذا المجال إلى درجة أن صحيفة «كيهان» اليومية
ذكرت في عددها رقم 8271 الصادر بتاريخ 20/11/1349 هـ ش(85)
أن أحد الثُّرَيَّات التي نُصبت في سقف أحد المراقد في إيران يبلغ ثمنها 20 مليون
تومان(86)،
ومن بين الثريات العديدة التي اشتريت لذلك الضريح هناك ثريا ضخمة لها 800
غصن!.
و
يتم شراء هذه الثريات من الخارج على شكل قطع مستقلة ثم يقوم أشخاصٌ محترفون
بتجميعها وإعادة إنتاجها من جديد لتصبح ثريا ضخمة تُعلّق في ذلك الضريح. وقد تم نصب
عدد كبير من تلك الثريات حتى الآن، ويتم حاليَّاً تركيب البقيَّة، إذْ يبلغ مجموعها
95 ثريا ويستغرق تركيبها عدة أشهر! وقال أحد المسؤولين عن ذلك الضريح لمراسل صحيفة
«كيهان»:
«بعد تركيب الثريات الجديدة سيتم الاحتفاظ
بالثريات القديمة في متحف خاص نظراً إلى قيمتها الفنيّة والتاريخية إذ يوجد من
بينها ثريات رائعة الجمال وباهظة الثمن قل نظيرها في إيران».
قلت:
فهذا نموذج بسيط عن الزخارف والزينات وأنواع التبذير والبذخ التي تتم في المراقد
والمزارات.
وكل
يوم يتم إنفاق أموال كثيرة ووَقْفُ أوقاف لا حصر لها لتُصْرَفَ على قبور الأموات،
ومن جملة ذلك الخبر الذي ورد في صحيفة «كيهان» العدد 8642
بتاريخ 17/2/1351 هـ ش: «قام الحاج «آقا حسين ملك»
الذي وصلت قيمة أمواله الموقوفة مؤخراً إلى ثلاثة مليارات تومان، قام في شهر «بهمن»(87)
من العام الماضي بوقف أربعمئة مليون تومان من أمواله الباقية والموجودة في متحف ملك
على شكل لوحات فنيّة وسجاد ووثائق خطيّة للملوك وتحف عتيقة وغيرها، للعتبة الرضوية
المقدسة (أي مرقد الإمام الرضا عليه
السلام في
مدينة مشهد)».
يا
ترى هل هذه الصورة من إنفاق ووقف كل هذه الأموال والأملاك وهدرها في تلك الغاية
تحقيقٌ لرضا وهدف المشرِّع المقدّس؟ ألم يكن الأولى والأكثر تحقيقاً لمراد الله عز
وجل أن تُنْفَقَ هذه الأموال على أمور تعليم معالم الدين، وعلى مساعدة الفقراء
والضعفاء والمحرومين والأخذ بيد ذوي العاهات والمعلولين وأداء ديون الغارمين (الذين
أثقلتهم الديون وعجزوا عن وفائها) الذين دخلوا السجون بسبب دُيُونهم، ومساعدة
الشباب العزاب والشابات العازبات على الزواج، وشراء الدواء والعلاج للمرضى ونشر
وترويج وتأليف وطبع الكتب التي تتضمن حقائق الدين؟!.
إننا
نجد في كتاب «أنساب الأشراف» للبلاذري (ج2/ص504) صورةً للوقف الذي أوقفه
أمير المؤمنين علي عليه
السلام كما
يلي: «حدثني الحسين بن الأسود، عن يحيى بن آدم،
عن شريك وغيره، قال: أوصى علي: هذا ما وقف علي بن أبي طالب أوصى به أنه وقف أرضه
التي بين الجبل والبحر أن يُنْكَحَ منها الأيِّمُ، ويُفَكَّ الغارم، فلا تُباع
ولا تُشترى ولا تُوهب حتى يرثها الله الذي يرث الأرض ومن عليها».
هذا
ما وقف علىُّ بن أبي طالب أمواله لأجله، أما قومنا اليوم الذين يفخرون بأنهم من
شيعة ذلك الإمام ومحبِّيه فإنهم يَقِفُون أموالهم على تعمير قبور الأموات وعلى
مجموعة من الطفيليين من سدنة المقابر الذين يعتاشون على زوّارها!. الله يشهد أن
أكثر تلك الأموال التي تُوقف على المراقد تُنفق فيما لا يُرضي اللهَ سبحانه
وفيما نهى الله عنه.
وكل
هذا الإنفاق يتم رغم أنف عشرات الأحاديث لدى الفريقين في حرمة البناء على القبور
وتجصيصها ورفعها واتخاذها مساجد والاعتكاف فيها.
قال
أحد فقهاء الشيعة الإمامية الكبار المرحوم «محمد بن مكيّ العاملي» المعروف بالشهيد الأوّل في كتابه الفقهي القيِّم
«الذكرى» ضمن بيانه لآداب دفن الأموات: «أما وضع الفراش عليه، والملحفة فلا نص فيه، نعم
روى ابن عباسٍ من طريقهم أنه جعل في قبر النبي صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ
قطيفة حمراء.. والتَّرْكُ أولى لأنه إتلاف للمال فيتوقف على إذن الشارع ولم
يثبت».
فيا
سبحان الله! ينصّ فقيهنا الكبير على أن وضع قطيفة على قبر الميّت إتلافٌ للمال
لا يجوز! ولكن معظم فقهائنا المعاصرين يجيزون صرف ملايين التومانات على القباب
الذهبية والأضرحة المسيّجة بالفضّة وإتلاف الأموال على الزينات والزخارف على تلك
القبور! فيا ربِّ أيُّ تَدَيُّنٍ هذا الذي لا يقيم وزناً لأحكام
الشرع؟!.
أجل!
عندما انتعشت من جديد نزعة عبادة الأموات بين كثير من المسلمين ودَفَعَهُم أعداء
الإسلام بطرقهم الخفيَّة دون أن يشعروا إلى ممارسة الأعمال والسنن الوثنية الجاهلية
التي كانت قبل الإسلام انطلقوا يبنون الأبنية العظيمة على المقابر ويحثون الناس على
زيارتها بما يعدونهم به عليها من أنواع الثواب العظيم الذي لا حد له ولا حساب
ويضعون لهم نصوصَ الزيارات التي يملؤونها بعبارات المغالاة في التمجيد والثناء
المشوب بالغلوّ المفرط المخالف للتوحيد الناصع الذي علَّمه الإسلام وقرَّره القرآن.
كما نشاهد ذلك بوضوح في كثيرٍ من مضامين تلك الزيارات الذي لا يتلاءم مع
تعاليم السنة والقرآن ويجافي العقل والوجدان، ثم إذا قام بعض العلماء والفضلاء
يردُّ على تلك المطالب ويثبت بطلانها بالدلائل العقلية والنقلية كصاحب كتاب «توحيد عبادت» (أي توحيد العبادة)(88)
ومؤلِّف كتاب «شهيد جاويد» (أي: الشهيد الخالد)(89)
وصاحب كتاب «درسي از ولايت» (أي: درس من الولاية)(90)
وغيرها انتدب إليه حراس الخرافات فاتهموه بالفسق وأسقطوه من أعين الناس معتبرين
إياه ضالاً منحرفاً، حتى صارت مجاهدة تلك البدع أصعب من مجاهدة الشرك باللات
والمناة وثوابها أعظم. لذا شدَدْنا العزيمة على ردّ تلك العقائد التي عمّت بها
البلوى بين العوام وأثبتنا تهافتها وبطلانها.
ومن
الجدير بالذكر أن كثيراً من نصوص تلك الزيارات لا سند له، فهي روايات غير مأثورة
وضَعَهَا أشخاصٌ حسب هواهم، وأوردها المجلسيّ بعباراتٍ تشي بذلك، فمن ذلك قوله في
«بحار الأنوار» (ج99/ص143، باب 8 - الزيارات الجامعة التي يزار
بها): «رأيت من بعض تأليفات أصحابنا نسخة
قديمة ذكر فيها هذه الزيارة وقدَّم قبلها دعاء الإذن فقال... الخ». وقوله في زيارة أمير المؤمنين عليه
السلام (البحار:
ج99/ص197): «الزيارة
الحادية عشرة زيارة المصافقة وجدت في نسخة قديمة من تأليفات أصحابنا ما هذا
لفظه...»، وقوله في زيارة أئمة البقيع عليهم السلام: (البحار:
ج99/ص 247) «أقول وجدت في نسخة قديمة من
مؤلفات بعض أصحابنا رضي الله عنهم ما هذا لفظه...». وفي آداب مسجد الكوفة يقول: «وجدت الرواية بخط الأفاضل منقولاً من خط علي بن
السكون رحمه الله».
فأي
حجة تقوم بنصوص زياراتٍ تُنقل إلينا بعبارات مثل «وجدتُ» و«رأيتُ في نسخة قديمة» و«رأيت في بعض
تأليفات أصحابنا» و...، ونحوها مما لا يُعلم منه
هوية راوي الزيارة ولا من هو كاتبها أو واضعها ومختلقها؟!
والواقع
أن كثيراً من الزيارات المدرجة في ذلك الكتاب (أي بحار الأنوار) ليس لها أي سند بل
نُقلت من كتب مثل «مزار كبير» و«مصباح
الأنوار» ونظائرها، وكثيرٌ منها يرويه رواةٌ
غلاةٌ وضعفاءٌ من أمثال «علي بن أبي حمزة
البطائني» الواقفي الملعون و«محمد بن سنان» الغالي المشرك و«عبد الله بن مسعود» المجروح المذموم و«بكر بن صالح» المطعون المشؤوم و«عمار بن موسى» الفطحي و«يونس
بن ظبيان» الغالي الكذاب و«أحمد بن هلال» الغالي المطعون و«سيف بن عميرة» المطعون الملعون و«علي بن الحسن الفضّال» الفطحي الملعون و«علي بن حسّان» الكذاب و... و...، الذين مرّ شرح أحوالهم وسنذكر حال
من تبقى منهم، ولعل بعض القرّاء يتعجب من كلمة «الملعون»
التي ذكرناها عقب اسم بعض رواة الزيارات ويظن أنها من جانب كاتب هذه السطور مع أن
الوقع أن تلك اللعنات مذكورة بحروفها في كتب الرجال، وإليكم نموذجين من رواة
الزيارات الذين لُعِنوا في كتب الرجال وبعضهم نال اللعنة حتى من الأئمة أنفسهم:
الأوّل
هو «أحمد بن هلال عبرتائي» الذي قال عنه الشيخ الطوسي في رجاله «بغداديٌّ غال»، وقال في كتابه «تهذيب الأحكام»/باب الوصية إلى أهل الضلال: «إن أحمد بن هلال مشهورٌ باللعنة
والغلوّ»، وقد أصدر حضرة الإمام الحسن
العسكري عليه
السلام توقيعات
في (لعنه) (تنقيح المقال: ج1/ص99).
والثاني
هو «يونس بن ظبيان» الذي روى قصة اكتشاف قبر أمير المؤمنين علي
عليه
السلام عندما
كان بمعية حضرة الإمام الصادق عليه
السلام،
وروى صاحب بحار الأنوار عنه عدداً من الزيارات، مع أن الغضائري قال عنه: «يونس بن ظبيان كوفي غال وضّاع للحديث، روى عن أبي
عبد الله عليه
السلام لا
يُلْتَفَتُ إلى حديثه».
وقال
عنه الإمام الرضا عليه السلام: «لعن الله
يونس بن ظبيان ألف لعنة، تتبعها ألف لعنة، كل لعنة تبلغك قعر جهنم، أشهد ما
ناداه إلا الشيطان، أما إن يونس مع أبي الخطّاب في أشد العذاب مقرونان»(91).
وقال
عنه العلامة الحلي في رجاله (ص 266): «قال
الفضل بن شاذان في بعض كتبه: الكذابون المشهورون: أبو الخطاب ويونس بن ظبيان ويزيد
الصائغ ومحمد بن سنان وأبو سمينة أشهرهم. وقال النجاشي إنه مولى ضعيفٌ جداً لا
يُلْتَفَتُ إلى ما رواه، كلُّ كُتُبِهِ تخليطٌ. قال ابن الغضائري: يونس بن ظبيان
كوفيٌّ غالٍ كذَّابٌ وضَّاعٌ للحديث روى عن أبي عبد الله عليه
السلام لا
يُلْتَفَتُ إلى حديثه، فأنا لا أعتمد على روايته لقول هؤلاء المشايخ العظماء
فيه».
هؤلاء
نموذج من الرواة الذين أتحفونا بتلك الزيارات التي استند إليها آية الله أبو الفضل
النبوي واعتبرها حجة قاطعة على تصرُّف وتدبير الأئمة في الكون والمكان!!. متناسياً
أن مثل تلك الأقاويل إنما رواها أشخاص ضالون وشياطين مضلون لا يجوز لمسلم أن يقبل
كلامهم. بل حتى لو قال الأئمة أنفسهم مباشرة مثل تلك الكلمات الكفرية والعياذ بالله
- وحاشاهم ذلك فهم لا ينطقون بمثلها بكل قطع ويقين - فعلينا أن نرفض تلك الأقاويل
اتباعاً لأمر الله تعالى وآيات القرآن المحكمة، ولتعاليم الأئمة - عليهم السلام -
أنفسهم الذين علَّمونا فقالوا أننا إذا سمعنا عبارات كفرية مغالية فلا يجوز
علينا أن نقبلها أياً كان قائلها حتى لو كانوا هم أنفسهم! كما قال الإمام الصادق
عليه
السلام:
«..
وإن قوماً كذبوا عليَّ ما لهم أذاقهم الله حر الحديد! فو الله ما نحن إلا عبيدُ
الذي خلقنا واصطفانا، ما نقدر على ضرِّ ولا نَفْعٍ، إن رَحِمَنَا فبرحمته وإن
عذَّبَنا فبذنوبنا، والله ما لنا على الله من حجة ولا معنا من الله براءة وإنا
لميتون ومقبورون ومنشرون ومبعوثون وموقوفون ومسئولون. ويلهم! ما لهم لعنهم الله!
فلقد آذوا الله وآذوا رسوله (صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ) في
قبره وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي (صلوات
الله عليهم)، وها أنا ذا بين أظهركم لحم رسول الله وجلد رسول الله أبيت على فراشي
خائفاً وجلاً مرعوباً، يأمنون وأفزع وينامون على فرشهم وأنا خائف ساهر وجل أتقلقل
بين الجبال والبراري، أبرأ إلى الله مما قال فيَّ الأجدع البراد عبد بني أسد أبو
الخطاب لعنه الله، والله لو ابتُلُوا بنا وأمرناهم بذلك لكان الواجب ألا
يقبلوه، فكيف وهم يروني خائفاً وجلاً أستعدي الله عليهم وأتبرأ إلى الله منهم،
أشهدكم أني امرؤ ولدني رسول الله (صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ)
وما معي براءة من الله، إن أطعته رحمني وإن عصيته عذبني عذاباً شديداً أو أشد
عذابه»(92).
وقد
قلنا إن أحد الكتب التي أُلِّفَتْ في موضوع الزيارات ومُلئت بمطالب مخالفة للقرآن
الكريم كتاب «كامل الزيارات» لـ «جعفر بن
محمد بن قولويه القمي» الذي اشتهر وأصبح
كتاباً مقبولاً لدى عامَّة الناس رغم اشتماله على مطالب من الغلوّ لا يمكن
قبولها - كما رأينا في أمثلة عديدة -، ورغم اشتماله أيضاً على عبارات فيها تشبيهٌ
صريحٌ للذات الإلـهية ينافي التنزيه الذي هو من أسس الإسلام ومذهب أهل البيت عليهم
السلام، والذي لا يمكن لمن يؤمن بالله الواحد المنزّه عن المكان والزمان والمحيط
بالكون والمكان المهيمن على الأرض والسماء أن يقبل به، وسنذكر فيما يلي نموذجين عن
ذلك:
1)
جاء في الصفحة 113 من «كامل
الزيارات» قول ابن
قولويه:
«مشايخي
عن محمد بن يحيى وأحمد بن إدريس عن حمدان بن سليمان النيسابوري عن عبد الله بن محمد
اليماني عن منيع بن حجاج عن يونس عن صفوان الجمال قال قال لي أبو عبد
الله
عليه السلام لما
أتى الحيرة: هل لك في قبر الحسين
عليه السلام؟
قلت: وتزوره جعلت فداك؟؟ قال عليه
السلام:
وكيف لا أزوره والله يزوره في كل ليلة جمعة! يهبط مع الملائكة إليه والأنبياء
والأوصياء ومحمد أفضل الأنبياء ونحن أفضل الأوصياء. فقال صفوان: جُعِلْتُ فداك!
فتزوره في كل جمعة حتى تدرك زيارة الرب؟ قال: نعم يا صفوان اِلْزَمْ ذلك يكتب لك
زيارة قبر الحسين
عليه السلام».
أقول:
رغم أن رواة هذا الحديث مجاهيل وغلاة ويكفي أن أحدهم «يونس بن ظبيان» الذي مرت ترجمته، إلا أن ما يحيِّرنا أن تُدْرَجَ
تلك الرواية وما فيها من عبارات تجسيمية لا تليق بمقام التنزيه المطلق للذات
الإلهية في كتاب ألّفه عالم محترم في أوساط الشيعة يقبله عامة الناس إجلالاً
لمقامه.
إنها
مطالب يعلم كل من له أدنى شعور بأنها لا تليق بالله تعالى، هذا عدا عن الضرر الذي
تحدثه أمثال هذه الروايات بسبب ما توجِدُهُ من غرورٍ لدى أكثر الناس الذين يظنون
أنهم بقيامهم بتلك الزيارة يلتقون بالله ولا ندري لعلهم يصافحونه!! ويلتقون
بالأنبياء وعندئذٍ يصبحون أبراراً أعزّاءَ في نظر الله يستحقون عفوه الكبير! لذا
نرى ونشهد كيف أن كثيراً من الفسّاق والفجّار الذين يغرُّهم الشيطان ويطمّعهم
بالشفاعة وثواب الزيارة يقومون بأعمالٍ يربأ عنها حتى الملحدون
والماديّون!!.
2) ويروي ابن قولويه أيضاً في الصفحة 67 فما بعد (الباب21 و22) من
كتابه هذا، رواية أخرى عن الصادق عليه السلام تقول: «حدثني أبي رحمه الله عن سعد بن عبد الله عن محمد بن
عيسى بن عبيد اليقطيني عن محمد بن سنان عن أبي سعيد القماط عن ابن أبي يعفور عن أبي
عبد الله
عليه السلام قال:
بينما رسول الله(صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ) في
منزل فاطمة عليها السلام والحسين في حجره إذ بكى وخر ساجداً ثم قال: يا فاطمة يا
بنت محمد! إن العلي الأعلى تراءى لي في بيتك هذا في ساعتي هذه في أحسن صورة وأهيأ
هيئة وقال لي: يا محمد! أتحب الحسين
عليه السلام؟
فقلتُ: نعم قرة عيني وريحانتي وثمرة فؤادي وجلدة ما بين عيني. فقال لي: يا محمد!
ووضع يده (!!) على رأس الحسين
عليه السلام:
بورك من مولود عليه بركاتي وصلواتي ورحمتي ورضواني ولعنتي وسخطي وعذابي وخزيي
ونكالي على من قتله وناصبه وناوأه ونازعه... وذكر الحديث».
إن كتب
الشيعة الإمامية مليئة للأسف بمثل هذه الأحاديث، مع أنها تخالف أُسُس المذهب
المعروفة والقطعيَّة في التوحيد وتنزيه الله عزَّ وجلَّ، بل تخالف ضروريات الإسلام،
ومع أن الزيارة أقصى ما فيها أنها مباحةٌ ولا نجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله
(صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ) أنها عبادةٌ مأمُورٌ
بها لها كل تلك الأهمية البالغة والأجر الخطير والثواب العظيم
المزعوم.
هذا ومن
جملة ما يبين تهافت روايات الزيارة وعدم صحتها ما نجده فيها من التناقض، فكثيرٌ من
الأحاديث التي جُمعت حول موضوع فضائل الزيارة وأدعيتها يناقضُ بعضُها بعضاً، فمثلاً
في الوقت الذي نرى حديثاً يجعل ثواب زيارة حضرة سيد الشهداء الإمام الحسين
عليه
السلام معادلاً
لتسعين حجة مع رسول الله وحديثاً آخر يذكر أن ثواب ذلك يصل إلى مليوني حجة!!؟ نجد
حديثاً يناقض ذلك كله ويستبعد أن يكون لزيارة قبر الحسين عليه
السلام ثواب
حتى حجة واحدة! وإليكم الحديث: روى الحِمْيَرِيُّ في «قُرْب الإسناد» (ص 48): «وعنهما عن حنان بن سدير قال: قلت لأبي عبد
الله
عليه السلام:
ما تقول في زيارة قبر الحسين عليه
السلام
فإنه
بلغنا عن بعضكم أنه قال تعدل حجة وعمرة؟ قال فقال: ما أصعب هذا الحديث! ما تعدل هذا
كله، لكن زوروه ولا تجفوه وإنه سيد شباب الشهداء وسيد شباب أهل الجنة وشبيه يحيى بن
زكريا وعليهما بكت السماء والأرض».
فهذا
الحديث يناقض كل الأحاديث السابقة التي تجعل لزيارة قبر الحسين مقادير من الثواب لا
حصر لها!.
والمشكل
الآخر الذي يضع علامات استفهام كبيرة حول أحاديث فضائل الزيارة هو أنه رغم كل فضائل
وثواب الزيارات المرويَّة عن الأئمة، لم يقم الأئمة أنفسهم بمثل هذا العمل الذي
حثوا الناس عليه وقد سبق بيان ذلك فلا نعيده.
تلك
كانت مطالب ومباحث نضعها أمام أنظار طلاب الحقيقة ليدققوا فيها ويتأملوها بتجرد
وإنصاف.
ونسأل
في الختام هل هناك بعد ما أوضحناه حجةٌ من كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة على تلك
الأعمال؟! ألن يؤاخذنا الله تعالى على صرف الأموال والأوقات على أعمال لم يأمرنا
بها الله تعالى ولا دعانا إليها رسوله (صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ) فضلاً
عما في نصوص بعض تلك الزيارات من عبارات شركية مغالية! هل الأعمال التي
لا يمكننا أن نجد سنداً صحيحاً لها والأقوال الصادرة عن حفنة من الكذابين
والغلاة تعتبر سنداً يمكننا أن نؤسس عليه أفكاراً وأعمالاً تخالف القرآن وتعادي
تعاليمه؟!
إنها
أسئلةٌ يحقُّ لكل عاقلٍ أن يسألها ويعرف إجابتها. هل أمر الآخرة سهل وقليل الأهمية
إلى هذا الحد الذي يسمح لنا بالاعتماد على تلك الأعمال التي لا سند لها؟ إنك لو
وجدت في ورقة بنكنوت شيئاً جعلك تشكّ بصحتها فإنّك تضعها جانباً فوراً حتى قبل أن
تتثبت من تزويرها ولا تجرؤ أن تأخذها إلى السوق وتشتري بها شيئاً خوفاً من أن تكون
مزوّرةً، فكيف نُعِدّ لزاد الآخرة حفنةً من الموهومات والخرافات نريد أن تكون زادنا
في يوم عسير لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون ولا نتأكد ونتحقق من صحة ما نتقرب به إلى
الله؟؟! حقاً إن هذا لأمر عجيب. أسأل الله تعالى لجميع المسلمين التوفيق
والهداية إلى الصراط المستقيم. إنه قريب مجيب وصلى الله على محمد وآله
الطاهرين.
حيـدر
علـي قلمـداران
ملتمساً
الدعاء من القراء الكرام
ملحق(93): البناء على القبور
في بلادنا وحكمه في ديننا!
لمّا
أشرتُ في مقال «علل انحطاط المسلمين» الذي نشرتُهُ في صحيفة «وظيفة» إلى
الوضع المؤسف للأوقاف في بلادنا (إيران) الذي تُصرف فيه أغلب الموقوفات - نتيجةً
لجهل وأمّيّة الواقفين - على المراقد والعتبات والأضرحة الوهمية لذراري الأئمة
وخدّامها وسدنتها وقرّاء المآتم فيها مما هو غير مطلوب في الشرع، وذكرْتُ أن نتيجة
ذلك ما نشاهده من خراب البلاد وبطالة الناس وجوعهم، انتقد مقالتي هذه عديدٌ من
الناس، أما الذين ليس لهم اطلاع على تاريخ صدر الإسلام ومبادئ الدين الحنيف وأصول
الشريعة فلا عتب عليهم، ولكن العتب على أحد الشيوخ المعممين في «قم» المعروف
بالفضل والعلم الذي قام بالرد على مقالتي في العدد 137 من جريدة «وظيفة» وقال بعد
أن كال لي التهم والسباب: إن هناك حديثٌ مُسْنَدٌ يُرَغِّبُ بالبناء على القبور
ويشَجِّعُ عليه، وادعى أنَّ هناك رواياتٌ عديدةٌ أخرى عن الأئمة المعصومين تدل على
ذلك!!
لذا
وجدت لزاماً عليّ أن أذكِّرَ بهذه الحقيقة وهي أنه لا يوجد في كتب الشيعة في باب
البناء على القبور وتشييدها وتعاهدها سوى حديثٌ واحدٌ وعلى المدّعي لأكثر من ذلك أن
يُثبت كلامه، وهذا الحديث الواحد سأضعه أمام أنظار القرّاء الكرام وأقوم بتحقيقه
سنداً ومتناً واترك الحكم عليه لأرباب الفضل وأولي العقل والإنصاف، ومن الله
التوفيق.
وقبل
الورود إلى البحث من اللازم أن أذكِّر بأن تشييد الأبنية وتخصيصها للأموات وعبادتهم
تمثل أحد الآداب والسنن التي كانت رائجة في الأديان الخرافية والباطلة قبل الإسلام،
وصفحات التاريخ مشحونة بذلك خاصة في إيران التي كان يروج فيها البناء على قبور
الأموات من الملوك والأمراء، وضرب القباب على أضرحتهم وجعلها مزارات ومشاهد فخمة
تُزار وتُعظَّم، ومن جملة ذلك قبر «كورش
الأوّل» المعروف بـ «گور دختر» الذي
اكتشفه عالم الآثار البلجيكي «وندربرج»، وقبر «جه إيش
بيش» وقبر «راه دختر» في مرقد
«پازار گاد»
الذي اكتشفه عالم الآثار «هارسفيلد»، وحسب رأي علماء الآثار يعود تاريخ تلك الأبنية إلى
القرن السابع قبل الميلاد. ولا يزال قبر كورش الكبير في «مشهد مرغاب» وقبر
«داريوش الأول» في «نقش
رستم» وعرش أم سليمان قائمة شامخة إلى يومنا هذا
في إيران، إضافة إلى أهرامات الفراعنة في مصر ووادي مقابر الملوك على الساحل الغربي
للنيل وخلفاء «ششتسوت» في مقابر ملوك مصر الجبارين مدعي الألوهية فيها
(طبقاً لعالم الآثار «وندربرج» حسب ما نقلته صحيفة كيهان بتاريخ 3/بهمن/1339هـ ش)،
والتي يعود تاريخها - طبقاً لتحقيق المؤرخين مثل «ويل ديورانت» -
إلى حوالي خمسين قرن مضت. وكل يوم يكتشف علماء التنقيب عن الآثار في إيران ومصر
قبراً جديداً لأحد الملوك أو القادة والوزراء من حاشيتهم ويستخرجون مرقداً أو
ضريحاً من تحت الأرض كما حصل هذا العام من اكتشاف قبر «گور دختر» بين
كازرون وبرازجان.
أما
في الإسلام وكما يدل عليه تاريخه المشرق فلم يكن هناك أي أثر لا في زمان الرسول
الأكرم صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ
ولا في زمان الخلفاء الراشدين ولا في زمان مسلمي الصدر الأول لبناء الأضرحة وتشييد
الأبنية وضرب القباب على قبور الصالحين وتعيين خدّام وسدنة لقبورهم. ورغم أن رسول
الله صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ
كان يذهب إلى زيارة شهداء أُحد ومقبرة البقيع، وأن فاطمة الزهراء عليها السلام كانت
تزور قبر حمزة سيد الشهداء عليه
السلام وأن
أمير المؤمنين كان يزور قبور البقيع وغيرهم من الشهداء والصحابة، ورغم أنه في زمان
رسول الله وزمان عليّ تُوفي مئات بل آلاف من أصحاب رسول الله الأجلّاء وشخصيات
بارزة من شيعة علي وأنصاره، إما شهداءً في أرض المعركة أو على فراشهم؛ لم يكن هناك
أي بناء على قبر أي أحد منهم ولا كانت هناك قبة ولا ضريح لأيٍّ من قبورهم، واستمرَّ
الأمر كذلك قرناً أو قرنين حتى دخلت في الإسلام شعوبٌ كثيرةٌ مثل شعوب بلاد فارس
(إيران) وما وراءها وأقباط مصر والحبشة وأهالي الروم بفضل جهاد جنود الإسلام، وحتى
أحرز أشخاصٌ كبارٌ من تلك البلدان مقامات ومناصب في بلاط الخلفاء؛ عند ذلك بدؤوا
بإدخال عاداتهم وتقاليدهم القديمة بطرق خفيَّة في دين الإسلام خاصة الإيرانيين منهم
الذين أدخلوا عديداً من آدابهم وسننهم المجوسية الماضية في الإسلام تحت عناوين
مختلفة مثل الاحتفال بعيد النيروز، وآداب دفن الأموات التي نجدها اليوم مشوبةً
بالعادات القديمة ومن جملة ذلك بناء ضريح وسياج مفضَّض وغرفة مزينة بالنقوش وقبة
على الأموات وإشعال الشموع والسُرج فيها ووضع الحلوى والفاكهة على القبر ونحو ذلك!
ومن أراد التحقيق في هذه الأمور على نحو مفصَّل فليرجع إلى كتب مثل «سير تمدّن وتطور ملل» (أي مسيرة الحضارة وتطور الشعوب) و«مشرق زمين گهواره تمدّن» (أي مشرق الأرض مهد الحضارة) و«ميراث إسلام» (أي
ميراث الإسلام) وغيرها من مؤلفات المحققين الإيرانيين
والأجانب.
بعد
هذه المقدمة لنأتِ إلى الحديث الذي يستند إليه القائلون باستحباب تعمير وبناء قبور
الأئمة وذراريهم: هناك حديثٌ في جميع كتب الشيعة مرويٌّ بألفاظ مختلفة حول استحباب
عمارة القبور(94)
هو التالي: «وعَنْهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ الْفَضْلِ قَالَ أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
الْفَرَزْدَقِ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُوسَى بْنِ الْأَحْوَلِ قَالَ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي السَّرِيِّ إِمْلَاءً قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ
الله بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَلَوِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ
أَبِي عَامِرٍ السَّاجِيِّ وَاعِظِ أَهْلِ الْحِجَازِ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا عَبْدِ
الله جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ عليه السلام فَقُلْتُ لَهُ يَا ابْنَ رَسُولِ
الله مَا لِمَنْ زَارَ قَبْرَهُ يَعْنِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وعَمَرَ
تُرْبَتَهُ؟ قَالَ: يَا أَبَا عَامِرٍ! حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام أَنَّ
النَّبِيَّ(صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ) قَالَ لَهُ: والله لَتُقْتَلَنَّ بِأَرْضِ
الْعِرَاقِ وتُدْفَنُ بِهَا! قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! مَا لِمَنْ زَارَ
قُبُورَنَا وعَمَرَهَا وتَعَاهَدَهَا؟ فَقَالَ لِي: يَا أَبَا الْحَسَنِ
إِنَّ الله جَعَلَ قَبْرَكَ وقَبْرَ وُلْدِكَ بِقَاعاً مِنْ بِقَاعِ الْجَنَّةِ
وعَرْصَةً مِنْ عَرَصَاتِهَا وإِنَّ الله جَعَلَ قُلُوبَ نُجَبَاءَ مِنْ خَلْقِهِ
وصَفْوَتِهِ مِنْ عِبَادِهِ تَحِنُّ إِلَيْكُمْ وتَحْتَمِلُ الْمَذَلَّةَ والْأَذَى
فِيكُمْ فَيَعْمُرُونَ قُبُورَكُمْ ويُكْثِرُونَ زِيَارَتَهَا تَقَرُّباً
مِنْهُمْ إِلَى الله مَوَدَّةً مِنْهُمْ لِرَسُولِهِ، أُولَئِكَ يَا عَلِيُّ
الْمَخْصُوصُونَ بِشَفَاعَتِي والْوَارِدُونَ حَوْضِي وهُمْ زُوَّارِي غَداً فِي
الْجَنَّةِ! يَا عَلِيُّ! مَنْ عَمَرَ قُبُورَكُمْ وتَعَاهَدَهَا فَكَأَنَّمَا
أَعَانَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلَى بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ومَنْ
زَارَ قُبُورَكُمْ عَدَلَ ذَلِكَ لَهُ ثَوَابَ سَبْعِينَ حَجَّةً بَعْدَ حَجَّةِ
الْإِسْلَامِ وخَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ زِيَارَتِكُمْ كَيَوْمَ
وَلَدَتْهُ أُمُّهُ فَأَبْشِرْ وبَشِّرْ أَوْلِيَاءَكَ ومُحِبِّيكَ مِنَ النَّعِيمِ
وقُرَّةِ الْعَيْنِ بِمَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ولَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ولَا خَطَرَ
عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ولَكِنَّ حُثَالَةً مِنَ النَّاسِ يُعَيِّرُونَ زُوَّارَ
قُبُورِكُمْ بِزِيَارَتِكُمْ كَمَا تُعَيَّرُ الزَّانِيَةُ بِزِنَاهَا أُولَئِكَ
شِرَارُ أُمَّتِي لَا نَالَتْهُمْ شَفَاعَتِي ولَا يَرِدُونَ حَوْضِي.»(95).
فَلِنَرَ
الآن سند هذا الحديث على ضوء علم الرجال أي استناداً إلى كتب الرجال المقبولة لدى
فقهاء وعلماء الشيعة الإمامية، ثم نعرِّج بعدها على تمحيص
مضمونه.
الطريق
الأول للحديث جاء في كتاب «تهذيب الأحكام» للشيخ الطوسي، وكتاب «فرحة الغَرِيّ»
للسيد عبد الكريم بن طاووس، وأول راوٍ في هذا الطريق هو «عَبْدُ الله بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَلَوِيُّ» الذي قال عنه علماء الرجال ما يلي:
- قال العلامة الحلي في الخلاصة (ص237):
«قال الشيخ الطوسي رحمه الله وقال غيره بَلَى
قبيلة من قضاعه النسبة إليها بَلَوِيّ، وقال الشيخ الطوسي كان واعظاً فقيهاً ولم
يُنَصّ على تعديله ولا على جرحه، وقال النجاشي: إنه ضعيفٌ. وقال ابن الغضائري:
عَبْدُ الله بْنُ مُحَمَّدٍ بنِ عُمَيْرِ بنِ مَحْفُوْظٍ الْبَلَوِيُّ أبو محمَّدٍ
المصرِيُّ كذَّابٌ وضَّاعٌ للحديث لا يُلْتَفَتُ إلى حديثه ولا يُعْبَأُ
به».
والآن
لنرَ أن هذا الشخص المحترم!! عمن روى حديثه؟ كما نلاحظ في السند لقد رواه عن راوٍ
اسمه «عُمَارَةُ بْنُ زَيْدٍ» وفيما يلي ترجمته:
-
قال
النجاشي في رجاله: «عُمَارَةُ بْنُ زَيْدٍ
الخَولانيُّ الهمدانيُّ لا يُعرف من أمْرِهِ غَيْرُ هذا».
-
وقال
عنه العلامة الحلي في رجاله (ص 24): «عُمَارَةُ بْنُ زَيْدٍ أبو زيد الخيراني الهمداني
المدني: كان حليف الأنصار هذا نسبه على ما يزعمه عبد الله بن محمد البلوي المصري،
فإنه لا يُعْرَفُ إلا من جِهَتِهِ، وقد سُئِلَ عبد الله عنه فقيل له: من عمارة هذا
الذي تروي عنه؟ فقال: رجلٌ نزلَ من السماء فحدَّثني ثم عَرَجَ!! وأصحابُنا
يقولون: إنه اسمٌ ليس تحته أحدٌ، وكلُّ ما يرويه كذبٌ والكذبُ بيِّنٌ في وَجْهِ
حَدِيثِهِ.».
-
واعتبره
أبو داوود في رجاله أيضاً ضعيفاً أو أنه اسم دون
مسمى.
كان
ذلك حال رجال الحديث حسب السند الأول، وهناك طريق ثان للحديث ذكره أيضاً السيد عبد
الكريم بن طاووس في كتابه «فَرْحَةُ
الغَرِيّ» (ص 76 - 77) (إذْ روى الحديث بعدة
أسانيد) فقال:
«محمد
بن أحمد بن داود القمي وقد تقدم الإسناد إليه قال حدثنا إسحاق بن محمد
قال حدثني أحمد بن زكريا بن طهمان قال حدثنا إسحاق بن عبد الله بن المغيرة قال
حدثنا علي بن حسان عن عمه عبد الرحمن بن كثير قال دخلت على أبي عبد
الله عليه
السلام وذكر
نحو المتن.
و
قال أيضاً أخبرنا محمد بن علي بن الفضل قال حدثنا أبو أحمد إسحاق بن محمد المقري
مولى المنصور قراءة عليه قال حدثني أحمد بن زكريا بن طهمان قال حدثني الحسن بن علي
بن عبد الله بن المغيرة قال دخلت على أبي عبد الله عليه
السلام فقلت
فداك أبي وأمي فذكر مثله».
فنقول:
في سند هذا الحديث «اسحق بن محمد» قالت عنه كتب الرجال مثل خلاصة الرجال للعلامة وجامع
الرواة للأردبيلي ورجال طه نجف ورجال الغضائري: «اسحق بن محمد بن أحمد إنه كان فاسدَ المذهب
كذّاباً في الرواية وضّاعاً للحديث لا يُلْتَفَتُ إليه».
وأحد
الرواة الآخرين لذلك السند «أحمد بن
زكريا»: قال عنه العلامة الحلي في رجاله:
«أحمد بن زكريا القميّ من الكذّابين».
وهذا
الشقيّ روى عن «علي بن حسان»: جاء في رجال الكشيّ عنه (ص451 - 452): «قال محمد بن مسعود سألت علي بن الحسن بن علي بن
فضال عن علي بن حسان قال عن أيهما سألت أما الواسطي فهو ثقة وأما الذي عندنا (يشير
إلى علي بن حسان الهاشميّ) يروي عن عمه عبد الرحمن بن كثير، فهو كذاب وهو واقفي
أيضا لم يدرك أبا الحسن موسى عليه
السلام».
وجاء
في رجال العلامة الحلي (ص234): «.. وقال ابن
الغضائري علي بن حسان بن كثير مولى أبي جعفر الباقر عليه
السلام أبو
الحسن يروي عن عمه عبد الرحمن غال ضعيف رأيت له كتاباً سماه تفسير الباطن لا
يتعلق من الإسلام بسبب، ولا يروي إلا عن عمه. وقال ابن الغضائري ومن أصحابنا
علي بن حسان الواسطي ثقة ثقة وقال النجاشي علي بن حسان بن كثير الهاشمي مولى عباس
بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ضعيف جداً ذكره بعض أصحابنا في الغلاة فاسد
الاعتقاد.».
يتبين
مما تقدم أن ذلك الشخص غال وضعيف وأنه كتب تفسيراً لا علاقة له بالإسلام أي مليء
بالأباطيل وأنه فاسد الاعتقاد.
فإذا
عرفنا حال «علي بن حسان» هذا فلنرَ حال عمه «عبد الرحمن بن كثير»: جاء في رجال النجاشي (ص175 من الطبعة الجديدة في
طهران): «عبد الرحمن بن كثير الهاشمي مولى...
كان ضعيفاً، غمز أصحابنا عليه وقالوا كان يضع الحديث!».
قلتُ:
ولعل هذا الحديث أحد موضوعاته!.
ثم
أضاف العلامة الحلي: «ليس بشيء!».
كل
أولئك ينقلون الحديث عن «أبي عامر واعظ
الحجاز» الذي ليس له ذكر ولا اسمٌ في
كتب الرجال. ولا يضر الجهل به فحتى لو كان هذا المجهول - أي أبي عامر - من أكبر
العبّاد والزهّاد وكان نظيراً للإمام جعفر الصادق فإن سند الحديث - بسبب حال رواته
الآخرين الذي عرفناه - لا قيمة له وساقطٌ من الاعتبار كلياً.
أجل
ببركة هذا الحديث الذي رواه أولئك الرواة الصادقون جداً!! امتلأت البلدان الإسلامية
بالأضرحة والمزارات والقباب والمشاهد الحقيقية أو الوهمية لأولاد الأئمة حتى لم تبق
قرية ولا بلدة إلا وفيها قبر أو أكثر لأولاد الأئمة التي يطلقون عليها لقب الأمراء
مما يذكرنا بالتقاليد والسنن الإيرانية المجوسية القديمة كقولهم شاهزاده حمزة! (أي
ابن الشاه أو الأمير حمزة) وشاهزاده جعفر! وشاهزاده أحمد! وقس على ذلك.. وذلك لأن
الإيرانيين القدماء كانوا يجلُّون ملوكَهُم وكان لديهم قبل الإسلام مئات الأضرحة
الخاصة بأولاد الملوك، فكأنهم لم يستطيعوا أن يعيشوا ويبقوا دون تلك المشاهد،
فأدخلوها في الإسلام، وصاروا يقفون أكثر من ربع ممتلكات هذا البلد من الأراضي
الزراعية والبيوت والدكاكين على تعمير تلك المشاهد والمراقد لأولاد الأئمة، الأمر
الذي أحدث أضراراً وخسائر كبيرة باسم الدين وشوّه الوجه النوراني للإسلام في نظر
العقلاء وجعلهم ينفرون منه، في حين أنَّ دين الله بريء من كل تلك الأعمال بحمد
الله.
والآن
لنأت لمتن ذلك الحديث:
أولاً
- أصل البناء على القبور ورفعها وتشييدها محرم في الإسلام كما تدل عليه الأحاديث
الصحيحة التي رواها الفريقان عن النبي والأئمة عليهم السلام، وسنذكر نماذج عن تلك
الأحاديث بعد قليل، وبالتالي كيف يمكن لشخص من أصحاب الإمام أن يسأله عن ثواب عملٍ
هو في أصله محرّم؟!.
ثانياً
- لم يكن قبر أمير المؤمنين معروفاً ولا واضحاً زمن الإمام الصادق فلا مجال أن يأتي
شخص لعمارته وتعاهده ويسأل عن الثواب الذي سيناله على ذلك؟ فطبقاً للتواريخ
الموثَّقَة تم اكتشاف قبر أمير المؤمنين استناداً إلى بعض العلامات والقرائن زمن
هارون الرشيد - أي بعد مدة من حياة الإمام الصادق - وبالتالي فمن البعيد جداً ومن
غير المعقول أن يسأل شخصٌ الإمامَ الصادقَ عن تعمير قبرٍ لا يُعرف مكانه
بالتحديد وتعاهده!!، وإذا رأينا في بعض الأحاديث أن حضرة الصادق قَدِمَ إلى النجف
أحياناً وأشرف على النقاط التي يُحْتَمَل أن تضم قبر أمير المؤمنين فإن تلك النقاط
غامضة إلى درجة لا يمكن الجزم معها بالمكان الدقيق للقبر، ويدل على ذلك أنه لمّا
كان الإمام الصادق يُسأل أحياناً أين قبر أمير المؤمنين؟ كان يذكر علامات وإشارات
لا تدل على نقطة محددة، فمثلاً جاء في «كامل
الزيارات» بسنده عن سعد عن ابن عيسى عن علي
بن الحكم عن صفوان بن الجمال قال: «كنت وعامر بن عبد الله بن جذاعة الأزدي فقال له عامر
(أي للإمام الصادق عليه السلام): جعلت فداك! إن الناس يزعمون أن أمير
المؤمنين
عليه السلام دفن
بالرحبة! فقال: لا. قال: فأين دفن؟ قال: إنه لما مات احتمله الحسن فأتى به ظهر
الكوفة قريباً من النجف، يسرةً من الغَرِيّ، يَمْنَةً عن الحِيْرَة، فدفنه بين
ذكوات بيض. قال: فلما كان بعدُ، ذهبتُ إلى الموضع فتوهَّمْتُ موضعاً منه ثم أتيتُهُ
فأخبرتُهُ. فقال لي: أصبتَ رحمَكَ اللهُ ثلاثَ مرَّاتٍ»(96).
ثالثاً
- تم تعليق ثواب تعمير القبر، في ذلك الحديث على أمر مجهول لأن بناء بيت المقدس لم
يكن عملاً مأموراً به في الإسلام حتى يُحدَّد له ثواب معين يمكن قياس ثواب الأعمال
الأخرى عليه، فمن المفهوم أن يُقال إن ثواب العمل الفلاني يُعادل حجة أو عدد من
الحجات أو الغزوات أو يُعادل كذا ركعة من الصلاة ونحو ذلك لأنها أمور أمر بها
الشارع في الإسلام وثوابها معروف، أما بناء بيت المقدس الذي تم في زمن داوود
وسليمان عليهما السلام فماذا كان ثوابه حتى تُقاس الأعمال الحسنة الأخرى
عليه؟.
رابعاً
- إن الذين أعانوا سليمان بن داوود على بناء بيت المقدس، كما جاء في نص القرآن
الكريم، هم الجنّ والشياطين، قال تعالى: ((وَمِنَ
الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ
عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ
مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ
اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ
الشَّكُورُ))[سبأ:12-13].
يقول
الشيخ الطَّبْرِسيّ في تفسيره لهذه لآية الكريمة في تفسيره القيّم «مجمع البيان» (ج8/ص382, الطبعة الجديدة في طهران): «قال: وكان مما عملوه
بيت المقدس.... (إلى قوله):
فلما صار داود ابن أربعين ومائة سنة توفاه الله واستخلف سليمان فأحب إتمام بيت
المقدس فجمع الجن والشياطين وقَسَّمَ عليهم الأعمال يخص كل طائفة منهم بعمل فأرسل
الجن والشياطين في تحصيل الرخام....
الخ».
أي
أن إتمام بناء المسجد إنما تمَّ على يد الجن والشياطين بأمر سليمان عليه
السلام وإخضاعه
لهم، ومن الطريف أن الله تعالى اعتبر هذا العمل نوعاً من العذاب لهم الذي ظلوا
خاضعين فيه رغم موت سليمان عليه
السلام الذي
لم يشعروا به، كما تفيده الآية التي تلت الآيتين السابقتين أي قوله
سبحانه:
((فَلَمَّا
قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْـمَوْتَ مَا دَلَّـهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ
الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ
الـْمُهِينِ))
(سبأ/14).
وجاء
في تفسير «منهج الصادقين» (ج7/ص353 - 354، طبعة طهران) شَرْحُ بناءِ بيت
المقدس بواسطة الجنّ على نحو مفصل يبدو منه أنه لم يشارك في بناء ذلك البناء أي
إنسيّ، إذْ يقول في تفسير الآية الأخيرة:
((مَا
لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الـْمُهِينِ)):
«قيل
إنه لم يمض على توظيفهم في العمل ببناء بيت المقدس عامٌ إلا وجاء داعي الأجل لقبض
روح سليمان عليه
السلام فأوصى سليمان حاشيته ألّا يفشوا موته وأن يجعلوه متكئاً على عصاه كي لا
يتوقف الجن عن العمل ويكملوا بناء المسجد!».
وقد
جاء المضمون ذاته في بحار الأنوار (الطبعة الحجرية:ج5/ص350 - 351).
فكيف
يمكن مقايسة تعمير مزار أمير المؤمنين بعمل الجن والشياطين؟! نعم لو قايسنا بعض
البانين لذلك المزار الشريف الذين كانوا ملوكاً جبارين وظَلَمَةً سفّاكين مثل «هارون الرشيد»
و«نادر شاه أفشار» الذي كان أولهما بانياً والثاني آمراً بتعمير ذلك
المزار، بالشياطين لكان قياساً صحيحاً غير بعيد عن الحقيقة!!
خامساً
- لو كان لبناء وتشييد قبر أمير المؤمنين كل ذلك الأجر والثواب فلماذا لم يقُمْ به
حضرة الإمام الصادق عليه
السلام الذي
كان أعلم الناس به، وكان يمتلك القدرة المالية عليه (كما رُوي عنه عليه
السلام قوله:
«أنا أغنى أهل المدينة»)؟؟
فإن
قيل: إن الإمام الصادق لم يكن يمتلك نفوذاً معنوياً للقيام بذلك، قلنا: إن الأمر
ليس كذلك لأنه في أوج سلطة وقوة خلفاء الجور قام ابنه إسماعيل بقتل رئيس الشرطة
وحاكم المدينة «داوود بن علي» الذي كان قد قتل «المعلّى بن خُنيس»، ولم يتعرَّض له أحد. فتعمير قبر أمير المؤمنين أمر
أسهل من ذلك بكثير ولا خشية فيه. فليت شعري لو كان تعمير وتعهد قبر علي وأولاده
عليهم السلام عملاً ذا ثوابٍ عظيمٍ إلى ذلك الحد المذكور، فلماذا لم يقم الإمام
الصادق عليه
السلام ببناء
قبر أحد العلويين أو عل الأقل ابنه إسماعيل ويقيم عليه قبة وضريحاً؟ أولاً
لِيُعَلِّمَ شيعتَهُ القيامَ بهذا العمل ذي الثواب الكبير. وثانياً: لِكَيْ يقضي
على ما كان شائعاً مشتهراً في أوساط فريقٍ من أتباعه بان إسماعيل كان لا يزال حياً،
ومن ذلك نشأت الفرقة الإسماعيلية التي نبع منها فساد كثير فيما بعد.
وعلى
أي حال فمن الواضح أنه كان بإمكان أحد الأئمة المعصومين أو المؤمنين الصالحين من
أتباعهم أن يؤدي تلك السنَّة السنيّة (!) لتصبح مستنداً للآخرين من بعده ولكنَّ
شيئاً من ذلك لم يحصل.
سادساً
- لنفرض أن تعمير قبور أمير المؤمنين وأولاده المعصومين سلام الله عليهم أجمعين
عملٌ ذو ثواب عظيم فما دخل أولاد وذرارِيُّ الأئمة في هذا الأمر وما الدليل الشرعي
على بناء الأضرحة والمراقد على كل ولدٍ أو حفيدٍ من أولاد الأئمة التي أغلبُها
قبورٌ وهميَّة؟ اللهم إلا أن يُقال إنهم لما كانوا من أولاد الأئمة فإنهم أشراف
فيشملهم الحديث الذي مرّ! ولكن مثل هذا القول مؤداه أن نبني أضرحة ومزارات على كل
شريف النسب وهم بمئات الألوف وليت شعري ماذا سيكون حال بلدنا عندئذٍ؟!
سابعاً
- إن فساد هذا العمل لم ينحصر بقبور ومراقد أحفاد وذرارِيّ الأئمة بل سرى إلى طبقة
المترفين والأثرياء في البلد، فأصبحنا نجد في مدينة قم قبوراً عجيبة وغريبة ذات غرف
مزخرفة ومزينة فوقها قباب جميلة بُنيت على الجيفة النتنة لبعض الأثرياء الفاسدين من
سارقي أموال الشعب وقوته، يقوم على خدمتها خدّام وقرّاء وتُفرش بالسجاد الفاخر
وتوضع فيها المصابيح المضيئة، بل لقد تحوّل الأمر إلى تجارة رابحة حيث قام أحد
الأثرياء غلاظ الرقبة (المترفين القُسَاة) من أهل طهران بشراء بقعة من الأرض
حوَّلها إلى مقبرة مجلَّلة جداً وأخذ يبيع أثرياء طهران وسائر المدن القبرَ فيها
بثلاثين أو أربعين ألف تومان!.
أجل
هذه هي نتيجة ما يدافع عنه بعض حماة الدين، ممن يصور مثل هذه الأعمال الجاهلية على
أنها من أركان دين خاتم النبيين، فإذا قام أحد ينتقد هذه الأمور رشقوه بأنواع
التُهم بلا حياء من الله ورسوله ولا حساب ليوم الدين!.
+
+
+
لنَذْهَبْ
الآن نحو الأحاديث المرويَّة عن النبيّ والأئمّة - عليهم السلام - في النهي عن
تعمير القبور وتشييدها والبناء عليها، والتي تتفق في مضمونها مع كتاب الله وسنّة
نبيّه ونقارنها بالأحاديث المزورة والملفقة التي مرت:
1
- في الكتاب الشريف الموسوم بـ«المحاسن»
تأليف البرقيّ، وفي كتاب «وسائل
الشيعة»/باب 43 من أبواب دفن الموتى عن
الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: «مَنْ جَدَّدَ قبراً أو
مَثَّلَ مثالاً، فَقَدْ خَرَجَ عَنِ الإسْلامِ».
2
- وفي كتاب «الكافي» للكُلَيْنِيّ (ج6/ص528) عن أبي القدّاح يروي عن حضرة
الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: «بعثني رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ - إلى المدينة في هَدْمِ
القبور وَكَسْرِ الصُّوَر فقال: لا تَدَعْ صُوْرَةً إلّا مَحَوْتَهَا ولا قَبْرَاً
إلا سَوَّيْتَه».
3
- وأورد الشهيد الأول في كتابه الفقهيّ «الذكرى»
روايةً عن أبي الهياج الأسديّ أن أمير المؤمنين عليه السلام قال له: «أَبْعَثُكَ عَلَى مَا
بَعَثَنِي بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا تَدَعَ
قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ وَلَا تِمْثَالًا إِلَّا
طَمَسْتَهُ»
4
- وجاء في كتاب «تهذيب الأحكام» للشيخ الطوسي (ج1/ص461،
ح 148)
وذكره الحر العاملي في «وسائل
الشيعة»/باب 44 من أبواب الدفن:
«عَنْ
عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى عليه
السلام عَنِ الْبِنَاءِ عَلَى الْقَبْرِ وَالجُلُوسِ عَلَيْهِ هَلْ يَصْلُحُ؟
قَالَ: لَا يَصْلُحُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ وَلَا الْجُلُوسُ وَلَا تَجْصِيصُهُ
وَلَا تَطْيِينُهُ.».
5
- وروى الشيخ الصدوق في مجالسه بسنده عن حضرة الصادق عليه
السلام عن
آبائه أن رسول الله صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ
نهى عن تجصيص القبور والصلاة فيها.
6
- وروى البرقيّ في «المحاسن» والشيخ الطوسي في «تهذيب الأحكام»
(ج1/ص462،
ح 150):
«عَنِ
الْقَاسِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ جَرَّاحٍ الْمدَائِنِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله
(الإمام الصادق) عليه
السلام قَالَ: لَا تَبْنُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَوِّرُوا سُقُوفَ
الْبُيُوتِ فَإِنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ كَرِهَ
ذَلِكَ».
7
- وأورد الحرّ العامليّ في «وسائل الشيعة»/الباب 44 من أبواب الدفن عن حضرة الصادق
عليه
السلام أنه
قال: «نَهَى
رَسُولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ - أَنْ يُصَلَّى عَلَى قَبْرٍ أَوْ
يُقْعَدَ عَلَيْهِ أَوْ يُبْنَى عَلَيْهِ».
8
- وروى الشيخ الصدوق في كتابه «معاني
الأخبار»: «عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الزَّنْجَانِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنِ
الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدٍ (رَفَعَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ)
أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَقْصِيصِ الْقُبُورِ قَالَ وهُوَ
التَّجْصِيصُ».
9
- وروى الشيخ الصدوق في كتابه «فقه الرضا» (ص188 - 189) ضمن ذكره تجهيز جثمان رسول الله
صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
«...فلما أن فرغ من غسله وكفنه أتاه العباس
فقال يا علي إن الناس قد اجتمعوا على أن يدفنوا النبي صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ
في بقيع المصلى وأن يؤمهم رجل منهم فخرج عليٌّ عليه
السلام إلى
الناس فقال: يا أيها الناس أ ما تعلمون أن رسول الله (صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ)
إمامنا حيا وميتا وهل تعلمون أنه (صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ)
لعن من جعل القبور مصلَّى ولعن من يجعل مع الله إلهاً؟!».
10
- وروى الشيخ الصدوق أيضاً في كتابه «من لا
يحضره الفقيه» (ج1/ص180، ح 539) عن الإمام موسى
بن جعفر الكاظم عليه السلام أنه قال: «إِذَا
دَخَلْتَ الْمَقَابِرَ فَطَأِ الْقُبُورَ فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً اسْتَرْوَحَ إِلَى
ذَلِكَ وَمَنْ كَانَ مُنَافِقاً وَجَدَ أَلَمَهُ».
فهذه
عشرة أحاديث شريفة نكتفي بذكرها طلباً للاختصار ولو أردنا أن نذكر كل الأحاديث في
هذا الصدد لطال بنا الكلام!.
فإن
قيل إن كل تلك الأحاديث المذكورة إنما هي في شأن قبور الناس العاديين، أما النبي
والأئمة فوضعهم مختلف، قلنا: إليكم هذه الأحاديث التي تُثبت أنه لا فرق في هذا
الحكم بين قبور النبي والأئمة - عليهم السلام - وقبور سائر الناس:
1
- روى الشيخ الصدوق في كتابه «علل الشرائع» (ج1/ص307/255 - باب العلة التي من أجلها يرش الماء
على القبر) بسنده عن حضرة جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عليهما السلام أنه قال:
«إن قبرَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيه
وَآلِهِ رُفع شبراً من الأرض، وإن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ أمر برشِّ
القُبُور».
2
- روى الشيخ الصدوق في كتابه «من لا يحضره
الفقيه» (ج1/ص178،
ح 532)
والحر
العاملي في «وسائلالشيعة» (ج5/ص161، ح6222):
«مُحَمَّدُ
بْنُ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيه
وَآلِه): لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي قِبْلَةً وَلَا مَسْجِداً
فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لَعَنَ الْيَهُودَ حَيْثُ اتَّخَذُوا قُبُورَ
أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ».
إن
جميع تلك الأحاديث التي مرت مدوَّنَةٌ مسطورةٌ في كتب حديث الشيعة الإمامية
الموثَّقَة ولم نأتِ بها لا من كتاب ابن تيمية ولا من تأليفات محمد بن
عبد الوهاب ولا حتى من كتب حديث أهل السنة حتى يُشْكِلَ بعضُ الناسِ عليها!
وبالطبع
هناك في كتب العامة أحاديث كثيرة بذلك المضمون منها ما رُوي: «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ
لِرَسُولِ اللهِ صلى
الله عليه وسلم كَنِيسَةً
رَأَتْهَا بِأَرْضِ الْحبَشَةِ يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ فَذَكَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ
فِيهَا مِنْ الصُّوَرِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى
الله عليه وسلم:
أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمْ الْعَبْدُ الصَّالِحُ أَوْ الرَّجُلُ
الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ
أُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ!»(97).
إن
الدين في العرف والعقل والشرع عبارة عن أمر الله ونهيه والأحكام التي شرعها الله
تعالى لخير الإنسان وسعادة العباد في الدارين، أما الدين في عرف الضّالين فعبارة عن
تعظيم الأفراد وذكر الأشخاص والتضرع إليهم في قبورهم دون الالتفات إلى ما جاء عن
النبي وما أراده الله من بعثة رسوله بل يقدمون الأعذار قدر استطاعتهم لتعطيل تلك
الأحكام حتى أصبح دين الله الأبدي مهجوراً وتعاليمه منسوخةً غير مكترثين بهذا
الوضع! فكل ما يهمهم هو تشييد القبور وإقامة المآتم وغير ذلك من الأمور في حين لا
يُولون الأمور المهمة والأساسية في الدين إلا اهتماماً ضعيفاً.
وإذا
أعيت أولئك المدافعين عن البناء على القبور الحيل لم يجدوا في جعبتهم إلا أن يقولوا
إن ما أقوله أنا وأمثالي في هذا الشأن هو عين ما قاله «كَسْرَوِيّ»(98)
ومشابهٌ لما قاله فلان وفلان، وأن العلماء قد ردُّوا عليهم وفنّدوا أقوالهم فاقرؤوا
كتاب العالِم الفلاني أو آية الله الفلاني لتجدوا فيه الإجابة عن كل تلك الإشكالات!
وأقول
في الإجابة عن ذلك: وهل كل ما قاله «كَسْرَوِيّ» - حتى ولو كان صاحب غاية خبيثة في كلامه - باطلٌ
وخاطئٌ؟!. لا شك أن ذلك الرجل المحشِّش (كسروي) كانت له أغراض لا دينية وقد خلط في
كلامه الباطلَ ببعض الحق وبالتالي فلا يعني ذلك أن كل كلمة قالها
خطأ.
وعلى
كل حال، إن كذب ذلك الحديث الذي يستند إليه القائلون ببناء المراقد والقباب على
القبور ليس أمراً يمكن كتمانه، كما لا يمكن إنكار كون القبور المشيّدة ذات الأبنية
العالية تذكرنا بالفراعنة والأكاسرة! ولا يمكن لأحد أن يزيل كل تلك الأحاديث
المروية عن النبي والأئمة عليهم السلام في مذمة البناء على القبور وتحديثها
وتجصيصها ورفعها من كتب الحديث، خاصة أن سيرة مسلمي الصدر الأول تبين بكل وضوح أن
مثل تلك الأعمال لم تكن رائجة ولا كانت في نظرهم مشروعة.
فكل
من يؤلف كتباً ويقول كلاماً في مواجهة كتاب الله وسنة رسوله وأحاديثه الشريفة
الصحيحة فقد قال زُخْرُفاً من القول حتى لو كان لقبه آية الله وكان حجم عمامته بحجم
قبة المسجد الأعظم! وحتى لو ادّعى الاتصال باللاهوت وكان ضليعاً بالفلسفة والتصوف
وملأ كتابه بسباب مخالفيه وتنقيصهم!.
في
المقالات التي نشرناها في صحيفة «وظيفة» أوضحنا أنه رغم أن أساس الأديان الحقّة وبعثة
الأنبياء الإلهيين هو اجتثاث جذور الشرك والوثنية واستبدالها بروح التوحيد، إلا أنه
لما كان البشر قد عاشوا أزمنة مديدة في ظلمات الجهل والوثنية وعبادة الأرواح
والأشخاص فإنهم لم يكونوا مستعدين كل الاستعداد لإدراك تعاليم الأنبياء وأخذ
معارفهم الحقّة لذا نجد في كل دين وملة بقايا وآثار من العقائد الشركية القديمة!
كما هو الحال في دين اليهود والنصارى الذي كان أساسه ديناً
حقاً.
ولكن
بسبب التعوُّد على تلك الخرافات الخاصة بعهد الظلام والشرك لم يستطيعوا التخلي بشكل
كامل عن العقائد الموهومة والباطلة بل عادت إلى دينهم بثوب جديد وأصبحوا يعتقدون
بألوهية أشخاص معينين ويتخذونهم آلهة وأرباباً مع الله!
ودين الإسلام المقدّس المعروف بأنه دين
التوحيد والوحدانية وكتابه السماوي حافظٌ لهذه العقيدة وملقِّنٌ لها وآياته الصريحة
تمنع بشكل قاطع كل تذلل وخضوع وعبادة لغير الله وتأمر بتقديم الحمد والثناء للذات
الأحدية وحدها كما يقول تعالى: ((وَأَنَّ
المَسَاجِدَ لِلهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا))
(الجن/18)، ولا تسمح بإعطاء أي صفات ربوبية لأيٍّ من مخلوقات الله أياً كانت ومهما
كان مقامها أو تقديسها وتسبيحها من دون الله.
وكان
أئمة دين الإسلام المبين بدءاً من النبيّ الأكرم صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ
والأئمّة الكرام -
عليهم
السلام - وصحابة رسول الله مراقبين دائماً ومنتبهين ألا تصدر عن المسلمين أي حركة
منشؤها الغلو بحقهم إلى الحد الذي كان رسول الله يمنع الناس أن يقفوا لديه وهو
جالس(99)
وكان يركب الحمار والبغل تواضعاً وانكساراً لله وكان يحلب الشاة بيديه ويجمع الحطب
في السفر بنفسه لطبخ الطعام ولم يكن يقبل من أي أحد أن يتملّقه بالمدائح والثناء
المشوب بالمبالغات والغلو ولم يكن يسمح لأحد أن يخاطبه بالألقاب والعناوين التي
تخصّ النبلاء والملوك المستكبرين ويمدحه بمثلها ويمتنع عن بيان كثيرٍ من فضائل أمير
المؤمنين عليه
السلام لكي
لا يقع الجهلاء في الغلو به وينسبون إليه ما لا يجوز.
ورغم
كل ذلك فإن الأشخاص الذين اعتادوا ردحاً طويلاً من الزمن على عبادة الأوثان
والأصنام وتشبّعت روحهم بتعظيم الأشخاص وعبادة الأرواح والملائكة لم
يستطيعوا أن يستوعبوا حقيقة تعاليم الإسلام التي تُؤكد أنه لا يوجد في عالم الوجود
والغيب والشهادة معبودٌ سوى الله وحده ولا توجد قدرةٌ ولا قوةٌ ولا مشيئةٌ
مؤثرةٌ في الخلق والكون سوى ذات الله واجب الوجود.
فيا
حسرة على العباد الذين لا يمكنهم التخلي عن روح الوثنية وتعظيم الأشخاص والغلو
فيهم، هذا رغم كل ذلك التواضع الذي كان لرسول الله صَلَّى
اللهُ عَلَيه
وَآلِهِ الذي كان يكرر: «إِنَّمَا أَنَا
بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا
أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ»(100)،
ويقول لأصحابه «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ
دُنْيَاكُمْ»(101)
وذلك عندما استشاروه في تأبير النخل فقال لهم لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا
كَانَ خَيْرًا فَتَرَكُوهُ فَنَقَصَتْ فقال لهم مقولته تلك، وكذلك الأئمة - عليهم
السلام - لم يدّعوا لأنفسهم مقاماً سوى بيان الحلال والحرام والرواية عن جدّهم حضرة
خير الأنام.
روى
محمد بن الحسن الصفّار في كتابه «بصائر الدرجات» عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن هشام بن سالم عن
محمد بن مسلم قال دخلت عليه (أي على الإمام جعفر الصدق عليه
السلام)
بعد
ما قُتِلَ أبو الخطاب، قال فذكرتُ له ما كان يَرْوِي من أحاديثه تلك العظام قبل أن
يُحْدِثَ ما أَحْدَثَ فقال (الصادق عليه
السلام):
«بحسبك
والله يا محمد أن تقول فينا: يعلمون الحلال والحرام وعلم القرآن وفصل ما بين الناس.
فلما
أردتُ أن أقومَ أخذ بثوبي فقال: يا محمد! وأي شيء الحلال والحرام في جنب العلم؟
إنما الحلال والحرام في شيء يسير من القرآن»(102).
وروى
السيد «هاشم البحراني» في تفسيره «البرهان»
عن أيوب بن الحرّ عن أبي عبد الله جعفر الصادق عليه
السلام أنه
قال لمن سأله: الأئمة بعضهم أعلم من
بعض؟ فقال:
«نعم! وعلمهم بالحلال
والحرام وتفسير القرآن واحد»(103).
وكان
الأئمة عليهم السلام يتبرؤون كل التبرؤ وترتعد أبدانهم ممّا يَنْسِبُهُ إليهم بعض
الغلاة - لعنهم الله - من علمهم المطلق بالغيب، كما روى المجلسي نقلاً عن كتاب
«رجال الكشي»
بسنده عن عن عنبسة بن مصعب قال قال لي أبو عبد الله (الإمام الصادق) عليه
السلام:
«أيُّ
شيء سمعت من أبي الخطاب؟ قال: سمعتُه يقول إنكَ وضعتَ يدكَ على صدره وقلتَ لهُ عِه
ولا تنسَ! وأنكَ تعلمُ الغيبَ وأنك قلتَ له عيبةُ علمنا وموضعُ سرِّنا أمينٌ على
أحيائنا وأمواتنا! قال (الإمام الصادق): لا والله ما مس شيء من جسدي جسده إلا يده،
وأما قوله إني قلتُ أعلمُ الغيبَ فو اللهِ الذي لا إله إلا هو ما أعلم، فلا
آجرني الله في أمواتي ولا بارك لي في أحيائي إن كنتُ قلتُ له. قال: وقدامه
جويرية سوداء تدرج فقال: لقد كان مني إلى أم هذه أو إلى هذه كخطة القلم فأتتني
هذه فلو كنت أعلم الغيب ما كانت تأتيني ولقد قاسمتُ مع عبد الله بن الحسن حائطا
بيني وبينه فأصابه السهل والشرب وأصابني الجبل..»(104).
إن
عدم معرفة الغيب لا تُنقص من شأن الأئمة ولا تُنزّل من مقام إمامتهم، بل حتى رسول
الله صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ
المُؤيَد بالتأييدات الإلهية، ومهبط الوحي الإلهي نفى علم الغيب(105)
عن نفسه وذلك طبقاً للآية الكريمة: ((قُل
لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء الله وَلَوْ كُنتُ
أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ
أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ))
(الأعراف/188).
ولا
يقتصر الأمر على عدم علم الغيب بل إن كثيراً من العوارض البشرية التي تعرض لكل فرد
عادي كانت تعرض لهم - عليهم السلام - أيضاً، كما روى الشيخ الصدوق في كتابه
الشريف «عيون أخبار الرضا» (ج2/ص203) قال:
«حدثنا
تميم بن عبد الله بن تميم القرشي قال حدثني أبي عن أحمد بن علي الأنصاري عن أبي
الصلت الهروي قال قلت للرضا عليه
السلام:
يا ابن رسول الله! إن في سواد الكوفة قوماُ يزعُمُون أن النبي
صَلَّى
اللهُ عَلَيه وَآلِهِ
لم يقع عليه السهو في صلاته!
فقال: كذبوا لعنهم الله إن الذي لا يسهو هو الله الذي لا إله إلا هو...
الحديث».
ورى
المجلسي في «بحار الأنوار» نقلا عن كتاب «السرائر» بسنده عن
الفضيل قال: «ذكرتُ لأبي عبد الله
عليه
السلام السهوَ
فقال: وينفلت من ذلك أحد؟! ربما أقعدت الخادمَ خلفي يحفظ علىَّ صلاتي. إياكم والغلو
فينا! قولوا إنا عبيد مربوبون وقولوا في فضلنا ما شئتم. من أحبنا فليعمل بعملنا
وليستعن بالورع فإنه أفضل ما يستعان به في أمر الدنيا والآخرة...»(106).
وكتب
أمير المؤمنين علي عليه
السلام رسالةً
إلى «المنذر
بن الجارود العبدي»
قال له فيها: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ صَلَاحَ
أَبِيكَ غَرَّنِي مِنْكَ وظَنَنْتُ أَنَّكَ تَتَّبِعُ هَدْيَهُ وتَسْلُكُ سَبِيلَهُ
فَإِذَا أَنْتَ فِيمَا رُقِّيَ إِلَيَّ عَنْكَ لَا تَدَعُ لِهَوَاكَ انْقِيَاداً
وَلَا تُبْقِي لِآخِرَتِكَ عَتَاداً تَعْمُرُ
دُنْيَاكَ بِخَرَابِ آخِرَتِكَ وتَصِلُ عَشِيرَتَكَ بِقَطِيعَةِ
دِينِكَ...» (نهج البلاغة/الرسالة 71 ص462).
وأورد
السيد «هاشم البحراني» في مقدمة تفسيره «البرهان»،
في الباب العاشر منها: أن بعض الناس زعموا أن المقصود من آيات القرآن هم الأئمة وأن
«المفضل بن عمر» نقل ذلك إلى الإمام الصادق عليه
السلام فأنكره
بشدة وقال:
«و
بلغكَ أنهم يزعمون أن الدين إنما هو معرفة الرجال ثم بعد ذلك إذا عرفتهم فاعمل ما
شئت!.... وذكرتَ أنكَ قد عرفت أن أصل الدين معرفة الرجال
وذكرت أنه بلغك أنهم يزعمون أن الصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان والحج والعمرة
والمسجد الحرام والبيت الحرام والمشعر الحرام والشهر الحرام هو رجل، وأن الطهر
والاغتسال من الجنابة هو رجل، وكل فريضة افترضها الله على عباده هو رجل، وأنهم
ذكروا ذلك بزعمهم أن من عرف ذلك الرجل فقد اكتفى بعلمه به من غير عمل.....
(إلى قوله عليه
السلام):
أُخْبِرُكَ
أنه من كان يدين بهذه الصفة التي كتبتَ تسألُني عنها فهو عندي مشركٌ بالله تبارك
وتعالى بيِّنُ الشرك لا شكَّ فيه.»(107).
وقد
أكد أمير المؤمنين والأئمة -
عليهم
السلام - على التحذير من الغلو والغلاة وقال عليه
السلام في
هذا الصدد قولته الشهيرة: «هَلَكَ
فِيَّ رَجُلَانِ مُحِبٌّ غَالٍ وَمُبْغِضٌ قَالٍ»(108)
(نهج البلاغة/الحكمة رقم 117).
لذا
نجد أن صاحب «تُحف العقول» يذكر ضمن وصايا أمير المؤمنين: «إياكم والغلو فينا! قولوا إنا عبيد مربوبون وقولوا
في فضلنا ما شئتم. مَنْ أحبَّنا فليعمل بعملنا وليستعن بالورع».
وأنه
كان يكرر وصيته: «لا تفضحوا أنفسكم عند عدوكم
في القيامة! ولا تكذِّبوا أنفسكم عندهم..» (109)
أي
لا تُسقطوا أنفسكم من أعين مخالفيكم وأعدائكم بإيمانكم بالعقائد المغالية
السخيفة التي تفضحكم أمام الناس يوم القيامة.
ولكن
للأسف مع كل هذه الوصايا والتعاليم وضع الأعداء الخبثاء أو الأصدقاء الحمقى أحاديث
كثيرة عن الأئمة - عليهم السلام - تُثبت لهم العلم بالغيب وإحياء الموتى وشفاء
المرضى وتقسيم أرزاق العباد وأن لا شيء يتم في العالم ولا يتحرك إلا بإذنهم، وأنه
عندما قام أمير المؤمنين بضرب «مرحب» نزل جبرائيل وإسرافيل وميكائيل من السماء خشية من أن
تصل ضربة أمير المؤمنين إلى الثور والحوت الحاملين للأرض!! وأن الأئمة كانوا يقضون
على الثعابين وهم لا يزالون في المهد ويقفزون إلى السماء وهم في المهد، وأنه قبل
نزول القرآن وبعثة نبي آخر الزمان قرأ عليٌّ على رسول الله سوراً من القرآن وهو لا
يزال حديث الولادة ملفوفاً في قماش مهده!! وأمثال تلك الخرافات والأساطير التي
يردّها العقل والشرع والتي لعن الأئمة - عليهم السلام - واضعيها واظهروا البراءة
منهم مراراً كما روى الشيخ الصدوق في كتابه الشريف «عيون أخبار الرضا»عن الإمام الرضا عليه
السلام أنه
قال: «...يا ابن خالد! إنما وضع الأخبار عنا
في التشبيه والجبر الغلاة الذين صغروا عظمة الله تعالى فمن أحبهم فقد أبغضنا ومن
أبغضهم فقد أحبنا ومن والاهم فقد عادانا ومن عاداهم فقد والانا... الحديث»(110)
وروى
الصدوق في كتابه المذكور أيضاً بسنده عن الإمام الرضا عليه
السلام قوله:
«يا ابن أبي محمود! إن مخالفينا وضعوا
أخباراً في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها: الغلو، وثانيها: التقصير في
أمرنا وثالثها: التصريح بمثالب أعدائنا فإذا سمع الناس الغلو فينا كفّروا شيعتنا
ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب
أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا وقد قال الله عز وجل ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ»(111).
حيدر
علي قلمداران
1.
|
القرآن
الكريم. |
2.
|
ابن
أبي شيبة، أبو
بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي (235 هـ)، «الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار»، الرياض: مكتبة الرشد، ط1، 1409
هـ. |
3.
|
ابن
الأثير الجزري، «التاج الجامع للأصول في
أحاديث الرسول». |
4.
|
ابن
الغضائري، رجال ابن الغضائري، قم: مؤسسة إسماعيليان، ط2، 1364 هـ
|
5.
|
ابن
داود الحلي (توفي في القرن 8 هجري?)، «رجال ابن داود»، نشر مؤسسة النشر في جامعة طهران، 1383 هـ
|
6.
|
ابن
سعد،محمد بن سعد كاتب الواقدي (230 هـ)، الطبقات الكبرى، ليدن،
هولندا. |
7.
|
ابن
شعبة الحراني، الشيخ الحسن بن شعبة، تحف العقول، قم: مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم، 1404 هـ |
8.
|
ابن
طاوس، السيد علي بن طاوس الحلي (664 هـ)، «مهج الدعوات»، قم: دار الذخائر، 1411 هـ |
9.
|
ابن
طاووس الحسني، السيد عبد الكريم بن طاووس الحسني (693 هـ)، «فَرْحَةُ الغَرِيِّ
في تعيين قبر أمير المؤمنين عليّ»،
قم: دار الشريف الرضي للنشر. |
10.
|
ابن
قولويه، الشيخ أبو القاسم، جعفر بن محمد بن جعفر بن قولويه القمي (367 هـ)،
«كامل الزيارات»،
النجف الأشرف: دار المرتضوية، 1398
هـ |
11.
|
ابن
كثير، الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي (774 هـ)، البداية
والنهاية، القاهرة، 1351 هـ. |
12.
|
ابن
ماجه، الحافظ محمد بن يزيد أبو عبدالله القزويني (275هـ)، سنن ابن
ماجه. |
13.
|
ابن
هشام، عبد الملك بن هشام الحميري المعافري (213هـ) السيرة النبوية، القاهرة،
بتحقيق السقا والأبياري والشلبي. |
14.
|
أبو
داود، الحافظ سليمان بن الأشعث السجستاني (275هـ)، سنن أبو داود. |
15.
|
أحمد
بن حنبل، إمام أهل السنة أبو عبدالله الشيباني (241 هـ)، مسند
أحمد. |
16.
|
الأردبيلي
(الفاضل محمد بن علي الغروي الحائري)، جامع الرواة، بيروت، 1403هـ.
|
17.
|
الاسترآبادي،
الميرزا محمد الاسترآبادي، منهج المقال في تحقيق أحوال الرجال. |
18.
|
الإمام
زيد بن علي، مسند الإمام زيد، بيروت: دار مكتبة الحياة. |
19.
|
البخاري،
الإمام الحافظ (256 هـ)، صحيح البخاري. |
20.
|
البرقي،
المحاسن. |
21.
|
البلاذري (أحمد
بن يحيى) (279 هـ)، أنساب الأشراف، بيروت: دار الكتب العلمية. |
22.
|
البيهقي،
الإمام الحافظ أحمد بن الحسين بن علي، (458هـ)، «السنن الكبرى». |
23.
|
الترمذي،
الحافظ محمد بن عيسى أبو عيسى (279هـ)، سنن
الترمذي. |
24.
|
التستري،
العلامة الشيخ محمد تقي التستري، قاموس الرجال، طبع طهران. |
25.
|
التفرشي،
السيد مير مصطفى بن الحسين الحسيني التفرشي، «نقد الرجال». |
26.
|
الجوهري،
«الصحاح في اللغة». |
27.
|
الحاكم
النيسابوري، محمد بن عبد الله (275هـ)، المستدرك على الصحيحين. |
28.
|
الحر
العاملي، الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (1104 هـ) وسائل الشيعة
في تحصيل مسائل
الشريعة،
ط1، قم: مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث، 1409 هـ |
29.
|
الحلي،
العلامة الفقيه
الحسن بن يوسف بن المطهر (726 هـ)، «خلاصة
الأقوال في معرفة الرجال»،
الطبعة القديمة. |
30.
|
الحلي،
العلامة، رجال العلامة الحلي، قم: دار الذخائر، 1411 هـ |
31.
|
الحميري،
عبد الله بن جعفر الحميري (توفى في القرن الثالث الهجري)، «قرب الإسناد»، طُبع هذا الكتاب مع كتاب الأشعثيات في مجلد
واحد بطبعة حجرية، طهران: مكتبة نينوى. |
32.
|
الخطيب
البغدادي، أحمد
بن علي أبو بكر (463هـ)،
تاريخ بغداد، بيروت. |
33.
|
الزركلي،
الأعلام. |